كيف تفكك الحشد
أشرت في التوريقة 4 إلى أن الملحوظ الأولي لجيل الصحوة حين انبثاقها في 1987 هو جديتهم من جهة وحسهم بالشك بكل من هو خارجهم من جهة ثانية، ولقد ظلت الجدية سمة بنيوية فاعلة ولكن الشك بالغير ظل فيروسا يفتك بالجسد حتى تمكن منه، وذاك الذي شك بغيره وصدق ما يحقن فيه من ظنون تحول ليشك بنفسه، أي صارت الظنون تعمل من داخل التكوين وتفرق بين فئة وفئة، ولم يجد هذا الفيروس من يعالجه أو يحتويه ولذا ظل يمضي في الجسد دون سيطرة ناجعة تحمي الكيان من التفكك، وكانت نظرية غرس الظنون بالغير مبنية على الرغبة العميقة في تحصين المريد من مزالق الطريق وأحراشه (حكاية وهابية ص145) وحمايته من تأثيرات الغير، فإذا ساء ظنه بالمظنون بهم فهذا سيحميه منهم ويقوي رغبته في البقاء داخل بوتقة الصحوة، بما أن خارجها محمل شبهة فكرية ومن ثم عقدية، هنا وقعت الصحوة تحت سطوة فيروس التحصن منذ مطالع وجودها فتركت الظنون تقود نظرياتها في العلاقة مع المحيط كله، اجتماعيا وثقافيا، وما (الشريط والكتاب عن الحداثة في ميزان الإسلام ) سوى علامتين على هذا الفيروس، حيث قام الشريط والكتاب معا على الظنون وجعلاها مصدرا للرؤية والحكم، ولقد دلت الشهادات التي ترد من المريدين كيف أن خزن التصورات في نفوسهم ضد الغير كانت تعمل على النقيض من المراد لها، وكشفت عن مخازن الظنون وكيف أنها هزت مواقفهم كلما تكشف لأحدهم أنه كان يصدق ما هو غير برهاني وهذا قلب المعادلة إلى نقيضها وبدأ الحشد يتفكك من داخله، ولا شك أننا خسرنا جيلا كان يبشر بروح الجدية والحماس والرغبة المذهلة في القراءة، ولكن فيروس الظنون لم يترك له أن يزدهر إيجابيا ودخلت السلبية في ظل غياب قيادات رمزية تدرك الخطر قبل بلوغه غايته التدميرية، وهنا نقول إن الرموز لم يدركوا معاني الكنز البشري الذي كان بين أيديهم وانهمكوا في فرحتهم بالحشد والتباهي برقمه ولكنهم نسوا أن فيروسا كان يسري بين الجموع حتى قضى عليها وربما نقول ما هو أخطر من ذلك إذ الملاحظ أن الرموز هم من كانوا يغذون الظنون ويصطنعونها تصورا منهم أنها تحصن الحشد من الغير، وجاء الأمر مقلوبا كلما تبين أن ذلك الغير لم يكن كما يصورونه وهنا تهتز علاقة المريد مع الخطاب المقدم له.
من الواضع إذن أن الصحوة كانت مبنية على حشد خاصيته الجوهرية أنه منفعل (مع) نفسه ومنفعل (ضد) غيره، ثم حولته الظنون ليكون منفعلا ضد نفسه وليس معها، وذلك عبر انشطار الخلية كما الخلية الفيزيائية حينما تنشطر وتتكسر إلى عناصر يكسر بعضها بعضا، وانتهى الأمر لمرحلة ما بعد الصحوة، حيث لم يعد لقانون التوجس من مبرر ولا من مستجيب.