«إن النقد مادته الأدب والحياة. النقد قراءة. هو تخيل بأن القارئ كاتب، ويمكن أن يكون المشاهد كاتباً إذا كان العمل الإبداعي مرئياً (سينما ومسرح وفن الشارع ..)، والسامع كاتباً أيضاً إذا كان العمل الإبداعي سمعياً (الغناء والحكي المسرحي والعزف». هكذا ينظر أحمد الواصل في كتايه: «سيادة الكلام/ فعالية النقد» والذي صدر مؤخرا عن منشورات «ضفاف» هكذا ينظر إلى المشهد النقدي العربي منذ النقاد القددماء وحتى الراهن، كاشفا عن رؤيته لتلك النظريات النقدية التي يفيد منها النقاد في كشف خغايا النص السردي والشعري، بل لم يتوقف الواصل عند النص الأدبي فقط، بل حاول أن يجترح آليات الاشتغال النقدي على النص الفني أيضا.
يطرح الواصل في مقدمة كتابه التي قسمها إلى قسمين، وأسماها بـ «كلام على الكلام» وكأنه منذ المقدمة يعلن لنا أن ما سيقدمه لنا هو نقد النقد، أو الكلام على الكلام، ويطرح في هذه المقدمة تساؤلاته حول المشهد النقدي مستشهدا بمقولة للناقد غالي شكري حيث يقول: «وما يشغلني في النقد هما أمران : القراءة المحتملة التقييم، والتفاعل المحتمل التأويل. وتتمثل باتصال خاصية القراءة والتفاعل بالمسؤولية الثقافية والأداء الحضاري إذ يتجلى ذلك بوصف أحد النقاد المرموقين وهو غالي شكري (1935-1998)».(المقدمة ص11).
إن القراءة النقدية لهذا الجهد الذي وضعه لنا أحمد الواصل في كتابه تكشف بعمق عن حيرة المثقف العربي تجاه تراثه النقدي، وتجاه النظريات النقدية التي استوردها النقاد العرب من الغرب، ولا تتوقف أسئلة الواصل عند تساؤلات تسائل النقد ونظرياته، بل هو يسائل الحضارة، ويكشف عن قلق وجودي يعاني منه المثقف العربي، حيث يرى أنه قد تكشف له: «إن الحضارة في دورة جدلية تنتقل في الزمان والمكان من عصر إلى آخر ومكان إلى آخر، وأن التراث يتمثل أكثر من وجه في بعده الاجتماعي والبعد الهوياتي والبعد الإنساني» (المقدمة ص11). وينحاز الواصل إلى رأي غالي شكري حيث يرى أن: «محاولة اكتشاف قوانين تطورنا الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي على ضوء بوصلة التقدم الحضاري، فإن «المسؤولية الثقافية» تشمل الجانب المعرفي والخبراتي والإنتاج المعنوي فيما يشمل»الأداء الحضاري» السلوك الثقافي والمنتج المادي والوسائل والوسائط التي تمكن من التداول والتفاعل والاستهلاك.وعلى الناقد الذي من ضمن عناصر تكوين شخصيته المفكر والقارئ والذوّاق بقدر ما يمكن أن يزدوج فيها شخصية المبدع سواء في فنون الكتابة أو فنون الأداء والحركة فإنه يلتبس فيه -وفي أحايين دائمة- وظيفياً شخصية المعلم والباحث الأكاديمي والصحافي الثقافي، أن يعي الدور المعقد والمتغير له إذ أن النقد «صياغة فكرية تجمع بين بعض عناصر العلم وبعض عناصر الفن وتتجاوزهما إلى الأفق الفلسفي»(شكري، 1989، ص:138).
في الجزء الثاني من مقدمة الواصل يكشف لنا تاريخه النقدي، وعلاقته بالنظرية النقدية، من خلال الحديث عن المعارف النقدية والثقافية التي حصلها من خلال قراءاته ودراساته النقدية، ويتوصل إلى قناعة وزواية رؤية للمشهد الثقافي والنقدي يتمثل فيها أهمية الغوص في ما يسمى بـ «الأنثربولوجيا الثقافية «، يقول: «نكتشف أن آخر ما نتعلمه ثقافتنا في جامعاتنا. وإنما كان أمرآخر. تعزيت بالمعرفة اللغوية التي قادتني إلى الأنثروبولوجيا الثقافية بفضل أستاذي فالح العجمي الذي درست عليه مادة»فقه اللغة العربية»، وبالمعرفة النقدية التي منحتني دربة وتمكيناً من النقد والتحليل والتفكير بفضل أستاذي حسين الواد الذي درست عليه «تاريخ النقد العربي». وبقدر ما جعلتني المعرفة اللغوية في تاريخها ونظرياتها وأخواتها أتجاوز «العبط التعليمي» في تقسيم دراسة اللغة العربية إلى «نحو، صرف، إعراب...» نحو البعد الحضاري، وكذلك النقد العربي من الوقوع في هوس استقدام نظرية ونقدي لم ننتجه، فلا يبدأ من نظريات المنطق والمثل الأرسطي والأفلاطوني ولا يقف عند بنيوية دو سوسير ولا تفكيكية دريدا. فقد توفرت في محاضرات أستاذي الواد المعرفة المتمكنة في «تاريخ النقد العربي»، ونظرياته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، واتجاهاته ومدارسه بناء على ما للنقد من علاقة في قراءة الأدب العربي ولغته ومواضيعه وجمالياته» (المقدمة ـ ص15).
قسم الكاتب كتابه إلى فصول تحمل عناوين متفرقة لدراسات كتبها الكاتب ليكشف فيها نقد النظرية النقدية ورؤيته لها، جاء القسم الأول تحت عنوان :»نقد الكلام» وقد قسمه إلى ستة فصول حاول فيها أن يكشف عن الأصول الأنثربولوجية للنظرية النقدية العربية، وحفريات معرفة العرب للنقد، وعاد بتلك الحفريات إلى نقاد العرب القدماء، قدامة بن جعفر والجاحظ والجرجاني وغيرهم :» ابتدأ تاريخ النقد الأدبي في عصر عربي ـ إسلامي ـ يحمل عبر مشترك حقوله أو تخصيب ثقافة ثناياه لزاحف الزمن من ذاكرات لا تبيد. ما يجعلنا أن نزمر أنفسنا في دائرة ثنوية لمقتضى النقد الأدبي عند العرب في تحولات تاريخية ليضعوا أوزار همومهم المعرفية الحضارية عبر شقين : نشوء من الداخل إلى الخارج، وتسرب من الخارج إلى الداخل» (ص23). ويأتي القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان: «سيدا الكلام» وتقصد فيه أن يكشف الدور النقدي للناقدين الكبيرين إسماعيل أدهم، و وعبد الله عبد الجبار. تحدث الواصل عن شخصية إسماعيل أدهم الناقد الأدبي والباحث في الأديان يقول: «غير أن شخصية العالم الفيزيائي والباحث التاريخي في الأديان غيبت شخصية الناقد الأدبي، فهو حين كلف من كلية الآداب التركية التابعة لجامعة اسطنبول لدراسة التاريخ الإسلامي والأدب العربي بين 1936 و1940 قد نشط في دراسة الثقافة العربية مطلع القرن العشرين حيث اختار مجموعة من المثقفين وأعمالهم الأدبية والفكرية، وهم: إسماعيل مظهر وتوفيق الحكيم وطه حسين ويعقوب صروف كذلك اهتم بدراسة شعراء عرب: خليل مطران وجميل صدقي الزهاوي وأحمد زكي أبو شادي وميخائيل نعيمة» (ص118).وفي حديثه عن عبد الله عبد الجبار يرى أنه :»يخرج إلى دائرة خاصة في النقد حيثم لم يكن ضمن إطار النقد الذي يعني بالنظرية البلاغية أو الشكلية بل نحو النظرية الأدبية المضمونية، وهو بالإضافة إلى ذلك يتبنى المنهج الأيديولوجي في النقد الذي يبحث عن وظيفة الأدب» (ص125).
وفي القسم الأخير من الكتاب الذي عنونه بـ :»حوار الكلام» يعرض فيه لعدد من الحوارات أقامها مع ثلاثة من النقاد العرب، يكشف فيها عن المشروع النقدي والفكري لهؤلاء النقاد، وينهي كل حوار بسيرة ذاتية أدبية لهؤلاء النقاد، وهم سعد البازغي وكتابه: «المكون اليهودي في الثقافة الغربية»، وحاتم الصكر وكتابه: «حلم الفراشة: الستينيات أزهى مراحل الثقافة العراقية، و أحمد بوقري وكتابه: «السيف والندى: النقد الحضاري بديلا عن النقد الثقافي». هكذا استطاع أحمد الواصل أن يطوف بنا بين النظريات النقدية قديما وحديثا داعيا إلى إنتاج نظرية نقدية عربية تستوعب المشروع الإبداعي العربي.
متى تلقي عصاك فتستريح
وتهدأ أيها القلب الجريح