حسن ومرقص فيلم مصري اجتماعي من بطولة عمر الشريف وعادل إمام ولبلبة، وتدور فكرته الأساسية حول علاقة المسلم بالمسيحي في المجتمع المصري بشكل خاص، ويبرز مع ذلك محور مهم هو الإنسان أولاً وقبل كل شيء، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى كالدين والعرق والنسب واللون والعلم، وهذا المحور يبدو هو المفهوم العام والشامل لفكرة ذلك الفيلم الجميل الذي تم عرضه في عام 2008م.
أثناء متابعتي للفيلم توقفت عند حوار جميل دار بين بطلي الفيلم (عمر الشريف وعادل إمام) بينما يشاهدان التلفاز باندماج مع فيلم مصري أبيض وأسود، وأحب هنا أن أسرد ذلك الحوار القصير الجميل هنا لندقق في قيمته على مستوى الإنسان، وتعامله مع نظيره وشريكه في الحياة الإنسان:
عادل إمام: نجيب الريحاني كان بيكتب له كاتب كبير وعظيم اسمه بديع خيري.
عمر الشريف: ده مسيحي.
عادل إمام : ده اللي كان فاكره الريحاني، بديع خيري أمه توفيت فالريحاني راح يعزيه، لقى قرآن وأصوان وناس بتعزيه، قاله: إيه ده يا بديع، هو أنت مسلم؟
قاله : آه
قاله : طب ما قولتليش ليه؟
قاله : ما أنت ما سألتنيش!
ده أيام العصر الجميل ..
عمر الشريف : هو نجيب الريحاني كان مسيحي؟
عادل إمام : أيوه .
طبعاً كان عادل إمام في ذلك الفيلم يمثل شخصية الشيخ حسن الذي يدعي الإسلام ليهرب من تطرف بعض المسلمين الذين يغتالون المسيحيين، وكان عمر الشريف يمثل دور مرقص الذي يدعي المسيحية رغم إسلامه ليهرب من تطرف بعض المسيحيين الذين يحاولون اغتياله.
توقفت عند ذلك الحوار لأنه جعلني أفكر هل يجب علينا أن نبني علاقاتنا الإنسانية مع من حولنا من البشر بناء على الدين فقط؟ وهل الاختلاف في الأديان يعني العداوة بالضرورة؟ لقد عرفت أن الإسلام بتعاليمه السمحة رسم للمسلمين في باب المعاملات طرقاً للتعايش والتقبل مع أهل الديانات السماوية دون الاشتراك في المعتقد أو اعتناقه، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة آل عمران : {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم...}، وهذا يدل على أن التعايش في الإسلام ينطلق من منطلق عقائدي بحت، يفرض علينا هذا التعايش السلمي.
فالوجود الإنساني يقوم على غاية عظيمة، هي الفوز بجنات النعيم، هذه الغاية قائمة على مجموعة من الغايات الإنسانية التي نحققها في الحياة الدنيا القصيرة الفانية عن طريق ما يسمى بالتكامل بين الغايات، التي يبدؤها الإنسان بالتعايش مع من حوله من البشر ليحقق وإياهم المصالح المشتركة، ويمارس دينه الذي أمره به الله سبحانه وتعالى، ويدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة التي لن يستطيع الإنسان رسمها في أبهى صورة لمن يدينون بالديانات الأخرى غير الإسلام إن عزل نفسه عنهم وعاش لنفسه فحسب، فعلى الإنسان أن يلتزم بكل المسببات التي توائم غايته حتى يستطيع تحقيقها.
ومن يقرأ في التاريخ الإسلامي عبر العصور المختلفة سيجد أروع الأمثلة على سماحة الإسلام وتعايش المسلمين مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، سواء تلك الديانات السماوية أو غير السماوية، كما ذكر التاريخ عن تعايش المسلمين مع غيرهم في مختلف البلدان التي فتحوها، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - تعايشهم في الأندلس مع أهلها غير المسلمين، ويبقى المسلم الحقيقي هو الذي يطبق مبدأ التسامح والتعايش في حياته مشعلاً بذلك شعلة الحقيقة التي تنير عقله ليراها الآخرون في سلوكه وتعاملاته معهم.
وحيث إن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان فإنه يقوم على مبدأ التعايش الذي جعله ينتشر بسرعة إلى مختلف أقطاب العالم، فيصبح ديناً عالمياً يحترم الأطراف الأخرى، ويتعايش معهم بكل أريحية دون إساءة أو قتال، بل بعدل ومساواة وبر وقسط، ويدعو بحكمة وموعظة حسنة لاعتناقه، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، كما قال سبحانه: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
بل إن الإسلام قد نهى عن السب للديانات الأخرى في قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه فَيَسُبُّواْ اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وقد نُظمت علاقة المسلمين مع كفار ومشركي قريش حسب قوله تعالى في سورة الكافرون: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ (6)}.
والمتابع للمشهد الحالي من الناس المعتدلين الوسطيين يجد ما لا يسره من الفُرقة في بلاد المسلمين، ففي حين نتحدث عن التعايش بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى ونطمح لتخفيف ذلك الصراع الديني العقائدي نجد أن الصراع قد انتقل بين المذاهب والطوائف الإسلامية لدق نواقيس الحروب الفكرية والبشرية بين أهل السنة والجماعة والشيعة؛ إذ احتدم الصراع الفكري، وبات كل طرف يسخر من الآخر، ويتصيد خطأه، والكل يبكي ويتباكى، وبعض القياديين في المذاهب المختلفة يهيجون أتباعهم مسخرين كل عدتهم وعتادهم من إعلام ومواقع تواصل اجتماعي ومنابر ضد أصحاب المذهب الآخر، في مشهد لا يبني بل يهدم اللحمة الوطنية التي لا نرضى بأي حال من الأحوال تفكيكها؛ لأن الإنسان أولاً، وهذا الوطن يبني الإنسان، والإنسان يُعمر الأوطان.
إن الصراع الطائفي لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتباره نوعاً من أنواع الحضارة، كما أن الإنسانية لا تقتضي قيام ذلك الصراع المؤدي إلى التباغض والمعاداة، وهذا ما يستدرج الإنسان إلى العودة لعصور بائدة، لم يكن فيها معنى للحريات الإنسانية، وكانت الدكتاتورية للفرقة القوية هي السائدة على العالم.
وفي هذا العصر التقني وثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي نجد أن أصحاب الفكر المعتدل والوسطيين الذين يحملون همّ تنوير العقول من ظلمة التطرف والتعصب الديني الممقوت الذي يعيق عجلة التنمية في الإنسان والمجتمع هم أكثر الناس معاناة لما يجدونه من حرب شعواء معلنة ومبطنة من أصحاب التطرف والجهل والعقول الصغيرة، رغم أنهم دائماً يميلون للحوار والهدوء والنقاش بالأدلة والشواهد، وأعني التنويريين الذين ما إن يكتب أحدهم تغريدة عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر حتى يشن عليه المتطرفون حملة ممنهجة تبدأ بالسب ولا تنتهي بالتهديد عبر رسائل الجوال والبريد الإلكتروني بل في مواقع التواصل، في استهداف صريح وواضح لكل ما هو تنويري.
ورغم كل ذلك الكم الهائل من التطرف الفكري الديني القائم على الجهل بمفاهيم الإسلام الحقيقية وتعاليمه وشريعته السليمة إلا أن الأمل في زوال هذا التطرف الهادم شيئاً فشيئاً ما زال قائماً، ففي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - أطال الله في عمره - تم افتتاح مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في العاصمة النمساوية فيينا، وهذا من شأنه وفق خطط علمية منهجية مدروسة نشر قيم التسامح والمحبة والأمن والسلام والتعايش من خلال احترام الاختلاف من خلال الحوار وتأسيس قواسم مشتركة بين مختلف الجماعات، وتحقيق المشاركة الدينية والحضارية والمدنية والاجتماعية بين القيادات الدينية والسياسية على أعلى مستوى ممكن مما يساعد على تحقيق التعايش في أبهى صورة، وينير عقول أولئك الذين دأبوا على المعاداة فحسب حتى طال شرهم أبناء جلدتهم بل الذين يشاركونهم الديانة نفسها حتى تحول كثير منهم إلى تكفيريين فحسب، لا يمتون لتعاليم الدين الإسلامي بأي صلة، وباتوا يشكّلون عبئاً؛ لأنهم يهدمون ويقطعون كل سبل التنمية وتحقيق التكامل.
لذلك أعود من حيث بدأت فأقول إن الإنسان أولاً, قبل كل شيء؛ لأن تعاليم الدين الإسلامي هي ما تساعد على تنمية ذلك الإنسان بنشر الحب والأمان والسلام، ولأن البغضاء والتناحر والحروب الطائفية والفكرية والدينية ستقتل ذلك الإنسان، ولن تعمره.