وملامح الرومانسية نجدها في كثير من الصور المبثوثة في النص الروائي صور الطبيعة الجميلة الممتلئة بالغدران، والرياض الخضرة، الأشجار والورود التي تحيط بالمنزل، وطريقة تصوير مكونات القصة التي تستنطق الأشياء وتجعل لها إحساسا ينبض، وإرادة: «واستقبل إبراهيم طارقا ورحب به ولكن الاضطراب كان يسيطر عليه، فاتجه بضيفه إلى غرفة نومه بدلا من غرفة الاستقبال، غير أن طارقا لم يلاحظ اضطرابه ولم يستغرب من ذهابه به إلى غرفة النوم؛ لأنه لا يعد نفسه غريبا.. غير أن عاصفة من القلق اجتاحت طارقا الذي كان يجلس على كرسي بجانب السرير، فنهض من الكرسي واتجه إلى النافذة المطلة على الحديقة ففتحها وجلس على كرسي بجانبها وحاول أن يشغل نفسه بمرأى الورد وأغصان الريحان التي ساهم في يوم ما في زراعتها وتنظيمها، كما استعان بصوت الراديو الذي أخذ يدير مؤشره على غير هدى»
«ومضوا ولا شيء يسمع صوت آلات السيارة المسرعة كأنما يريد بعضها أن يأكل بعضا، وهي تدفع هيكل السيارة في سرعة هائلة، حتى كأنما حملتها الريح عن الأرض فزادت في اندفاعها ليتمزق الهواء عن وجهها مخلفا أصواتا كمثل الرعود مختلطا بالعواصف الهوج. فتغرق الأم في دوامة أفكار متشائمة».
إضافة إلى طبيعة العلاقة بين الأسرة وطارق، وبين طارق وفاطمة تلك العلاقة التي قامت على الحب، والشفقة، والطموح في السير نحو المثال، وهي أثر واضح لكتابات المنفلوطي التي تظهر فيها المثل الرومانسية مجردة بوصفها القضية التي تطمح الإنسانية إلى بلوغها. وأسمى هذه القيم «الحب» الذي بدا في هذا النص بوصفه قيمة عليا لا يوارب بالوقوف معه فعلى الرغم من أن المرحلة الزمنية التي يحيل إليها الكاتب لا تظهر فيها المشاعر باعتبارها قضية تشغل الناس، كما بدا في موقف أم فاطمة الأولي حين ضربتها على وجهها ونعتتها بالكلبة، وهددتها بإخبار والدها، إلا أن النص بعد ذلك يميل مع «المتحابين»، ويصف المرأة التي رأت الجمع بينهما «مريم» بأنها عجوز حكيمة، وكأنه يهيئ المتلقي لما ستقوله، أو كأنه يبين الفارق بينها وبين أم فاطمة التي اعتبرت «الحب» جريمة يعاقب عليها، وقد تحول الموقف بعدها تحولا جذريا، فأصبحت أم فاطمة في صف ابنتها، تخبرها بأخبار طارق، وتعدها بأنها ستزوجها به، بل تحيك الخطط معها ومع طارق كي تحول دون زواجها من راشد، وتعد بإقناع والدها. مما جعل الرواية تتحول إلى ملحمة للحب يسعى فيها معظم أفراد هذه الرواية إلى إنجاحه وتذليل الصعوبات التي تعترض لقاء المتصفين به.
العالم الثالث الذي ظهر في الرواية بشدة هو عالم البوليسية والجريمة، فالمسدسات، والقتل، والتآمر على إحراق محل طارق، بل إحراقه فعلا يأتي في الرواية، فحامد قد عزم على قتل طارق منذ الوهلة الأولى التي شعر فيها بمنافسته له، فرصد مرة مكافأة لقتله، ومرة أخرى أعد مسدسا وخرج به يبحث عن طارق لولا أن ابن عمه أراحه بأنه قد أعد العدة لإحراق محله وهو فيه، وحين لم يمت طارق بهذه الحادثة وتقدمت الأحداث، أقدم حامد مرة أخرى على إطلاق الرصاص عليه في منزله، ثم إطلاق ما تبقى منه على أخته بسبب تهمة الخيانة التي ظهرت له. وهو ما جعل قصة الحب تتداخل مع قصة أخرى يتداخل فيها الحسد بالغيرة وينتج عنها الجريمة مما يقربها إلى عوالم الرواية البوليسية. «وبينما كانت عائشة مع طارق تروي له قصة صراعها مع زوجها وابنها، في سبيل تزويجه فاطمة.. وهو يستمع إليها مقبلا على التقاط كلماتها بكل مشاعره وإحساساته وخطوط سعادته المقبلة تتراءى له من خلال حديثها آمالا تلمع كالمجرة تبدت في ليلة صافية الأفق، كان حديث المسدسات والنيران الملتهبة والفضائح في المحاكم والدوائر والسجون والغرامات يدور في أعنف معركة كلامية بين إبراهيم وأخيه حسين».
لقد جمع محمد بن حسين هذه العوالم الثلاثة في حكاية واحدة، منسوجة بلغة فنية جميلة تنتمي إلى الإنشائية العربية الأولى، التي نضجت بالكتابة الرومانسية العربية لدى جبران خليل جبران، ومصطفى لطفي المنفلوطي والرافعي بعد ذلك، حيث تراسل الحواس، واستنطاق الطبيعة، واستبطان الأشياء والإحساس بإحساسها، وحيث غلبة الصورة وكليتها، ثم ربط بين أجزئها ربطا سببيا، حاول أن يكون مقنعا في كثير من حالاته، اعتمد فيه على الإقناع اللغوي للمتلقي، وتبيين إمكانية حدوث تلك الصورة التي قد لا يتصورها القارئ للوهلة الأولى، مما جعل الرواية تصبح نوعا من الفانتازيا اللذيذة التي يدرك القارئ عدم واقعيتها لكنه يتلذذ بقراءتها، وبتأمل مكوناتها كما يتلذذ القارئ بقراءة رسالة الغفران لشيخ المعرة، حيث عالم خيالي أنشأه الكاتب من خلال ثقافته ومحاولة تصويره لذلك العالم الذي كل ما فيه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.