التفكير من وظائف اللغة, واللغة هي جزء من إنسانية الإنسان وهي نتاج اجتماعي ومحرك لتطوره, ولذلك التفكير العشوائي, أي بدون ضوابط ولا يتناغم مع المرحلة التي بلغها التطور الاجتماعي يقال عنه غير منطقي, ولكنه موجود ويفرض نفسه بالقوة على حياتنا اليومية أحيانا, كما أن التفكير العشوائي لا يعترف بعبثيته عادة, إنما يلبس ثوب المنطق, فعندما يأتيك من يقول, أنت كافر (شرعا) لأنك لست معي, يكون قد منح نفسه لوحده حق التفكير المستند إلى الشريعة وسلبك حقك في التفكير عموما, سواء كان تفكيرك مستندا للشريعة أم لا, وعندما يجبرك بالقوة أن تكون معه يكون قد سلبك حريتك وحقك في الحياة.
استناد التفكير إلى المنطق لا يعني أنه ليس حرا, فالحرية لا تعني أبدا الانفلات من القواعد حيث تنتهي حريتك في التفكير وغيره عندما تبتدئ حرية الآخرين.
ما هو المنطق إذن؟
على الرغم من الخلط الواضح في الكثير من المراجع بين المنطق كمفهوم وبين علم المنطق كعلم له قواعد وأسس كما العلوم الأخرى, فالصياغة المشتركة أن المنطق هو قواعد التفكير السليم.
أما علم المنطق فهو يدرس -بمعنى يحدد- قواعد التفكير السليم, ولكن لا يوجد ذكر في المراجع من الذي يمتلك الحق بأن يجعل من هذه الفكرة أو تلك مقياسا للتفكير السليم؟ فالمقياس أن وجد لن يكون ثابتا, فهو خاضع لعملية المعرفة الجماعية وهي أي -العملية المعرفية- خاضعة بدورها للتطور الاجتماعي والبشري العام, ولذلك لا يمكن لأي مقياس أن يكون ثابتا, بل يتغير بتناغم مستمر مع الزمان والمكان, وهذا لا يعني أن المنطق لا يمكن أن يكون له مقاييس, ولكنها أي -المقاييس- لا يجب أن تكون مطلقة إنما مستمدة من الواقع المتغير نفسه.
الفيلسوف اليوناني أرسطو أول من حاول وضع قواعد للمنطق وهي كالتالي:
1- الشيء نفسه؛ بمعنى أن الإنسان هو الإنسان والمرأة هي المرأة والرجل هو الرجل... الخ, هذه المقولة تستند إلى المفهوم المطلق, فلا يوجد فرد في هذا العالم يمكن تسميته الإنسان إنما يوجد إنسان له اسم وتاريخ ميلاد وتاريخ اجتماعي وفردي وجغرافيا, لا يوجد إنسان مطلق إنما نسبي ومحدد وكذلك المرأة أو الرجل أو المجتمع أو الدولة.... الخ.
2- عدم التناقض: أي لا يجوز أن تسمي الشيء ونقيضه في آن واحد فلا يجوز أن تقول هذا إنسان ولا إنسان في نفس الوقت.
على الرغم من أن هذه المقولة تتسق مع الهدف الذي وضعت من أجله وهو المنطق إلا أنها تبقى مطلقة وغير موازية للواقع لأن أي ظاهرة لا وجود لها في الوعي بدون وجود النقيض.
لو تأملنا مثلا الليل والنهار كنقيضين وافترضنا أن الليل غير موجود وأن الدنيا كلها نور مستمر هل سيوجد في أذهان الناس شيء اسمه نهار أو ليل؟ وإذا لم يوجد الحلو هل سيوجد المر؟ إذن الشيء ونقيضه يحدد كل منهما وجود الآخر وهما في وحدة واحدة لا تنفصم.
3- الوسط المرفوع: أي أما أن يكون الشيء أو لا يكون. هذه المقولة تنطبق على الكثير من الأشياء فالإنسان - حسب أرسطو, أما أن يكون إنسانا أو لا يكون, لا يوجد وسط في ذلك, ولكن ماذا عن الحق والباطل, ألا يوجد حق مجتزأ أو غير مكتمل؟ ألا توجد مساحة رمادية بين هذا وذاك يجري فيها صراع دامٍ، في الكثير من الأحيان يجري فيها صراع دامي في الكثير من الأحيان؟ فلا يجوز القول عن فكر أو سلوك أو مقولات إنها حق مطلق أو باطل مطلق لأن ذلك إخراج من سياقها الاجتماعي.
نقد وتطوير مقولات أرسطو تناولها فلاسفة عظام ومن ضمنهم إسلاميون, أما مأثرة أرسطو هي أنه أول من فكر في وضع قواعد للتفكير وفتح بوابة علم لم يكن موجوداً, كما هو الحال بالنسبة لابن خلدون الذي أسس في مقدمته الشهيرة لعلم التاريخ الذي كان قبله مجرد سرد أحداث دون تحفظ.
علم المنطق يحتاج إلى فرز حلقة أو أكثر لتغطيته كاملا, فهو موضع تباين بين الفلاسفة سابقا والجامعات حاليا, ولكن ما يهمنا هنا هو التفكير, الذي لا يجوز الحديث عنه دون أخذ ولو فكرة بسيطة عن المنطق.
محاولات فصل المشاعر عن التفكير, كالقول إن الإبداع هو عاطفة فقط والعلم هو فكر فقط باءت بالفشل عبر التاريخ. كان وما زال الطب النفسي أكثر العلوم حاجة لمعرفة حقيقة هذا الأمر, وقد أكد بالتجربة أن الخلل في التفكير له أولا أساس عضوي (العقل السليم في الجسم السليم) وثانيا أن سرعة التفكير أو بطئه ومنهجيته أو عبثيته ووضوحه أو غموضه وتفاؤله أو تشاؤمه وفرحه أو حزنه ومبادرته أو تراجعه وتطابقه مع المزاج أو عدم تطابقه, كل ذلك مرتبط بعضه ببعض وكذلك مرتبط بشكل وثيق بالتوازن الهرموني داخل الجسم أو عدمه, فلا يوجد تفكير علمي بعيداً عن الرغبة أو الحاجة ولا يوجد نص أدبي بدون تفكير. كما أن الإبداع هو سرعة التفكير (البديهة) ومهارة توظيف الكلمة (المفهوم) في سياق الجملة (النص) وهو متناغم مع التطور العام, حيث يوجد مستوى من الإبداع التراكمي تاريخياً ونستمتع نحن مثلاً بالشعر الجاهلي ولكننا لا نستسيغه من شاعر معاصر لا من حيث صوره الفنية ولا موضوعاته بصيغتها الجاهلية.
كل العلوم التطبيقية منها والإنسانية نشأت بسبب الحاجة, التي حددها ويحددها التطور الاجتماعي فلا يوجد تفكير من أجل التفكير وحسب, ولا يوجد تفكير (سليم) إلا بتطابقه مع واقع ذلك التطور.
تطابق التفكير مع الواقع لا يعني أنه إيجابي بالضرورة, فعندما يلجأ طرفان للحوار أو التفاوض لحل الخلاف و(يفكر) أحدهما باستخدام العنف لفرض موقفه قسراً فهل سيكون (تفكيره) في هذه الحالة سليماً؟ الجواب نعم, لأنه يدخل في لب الصراع الاجتماعي وهو نابع من الواقع, ولكنه سلبي, حيث إن ما يحدد سلبيته أو إيجابيته ليس الواقع الاجتماعي بل هل هو مع أو ضد التغيير في عملية التطور ذاتها، ولذلك لا يمكن اعتبار التفكير محايداً.
التفكير يرتبط بالعملية المعرفية بمجملها والمرتبطة بدورها بتراكم الملاحظة والفرضيات والتجارب والنظريات بصورة مستمرة مواكبة للتطور الاجتماعي والبشري، أما التفكير الذي يقف عند الملاحظة وحدها لا يصل إلى نتيجة ويسمى (سفسطة).
التفكير المنهجي هو المتنامي مع العملية المعرفية ويمنح الطالب الجامعي شهادته ليس لحصوله على كم من المعلومات وحسب, بل لاكتسابه المنهجية الأكاديمية في الاستقصاء والبحث أي التفكير.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التفكير التجريبي أو المنهجي لا يخص العلوم التطبيقية فقط إنما العلوم الإنسانية أيضاً على الرغم من عدم جواز التجارب المخبرية على الإنسان، حيث يجوز إجراء الإحصاءات وتقديرات ميول الرأي العام وتجريب نظام تعليمي مثلاً وملاحظة مدى نجاحه أو فشله وهكذا.
التفكير المنهجي ليس مقتصراً على المتعلمين فقط, فيوجد الكثير من الأميين ذوي تفكير منهجي بسبب خبراتهم العملية، وهو ما يؤكد دور التجربة في حياة الفرد والمجتمع كما أنه ليس كل من حصل على شهادة ذا تفكير منهجي بالضرورة.
التفكير أحد عناصر اللغة وهو كما اللغة بمجملها لا يمكنه أن يكون فردياً لأنه مرهون بالإنسانية وتراكم التجربة, ولذلك هو عملية مستمرة وتطورية يساهم فيها الفرد والمجتمع, الذي يدعي أنه هو القادر وحده على الوصول إلى الحقيقة, وكأنما هي مطلقة وثابتة إنما يخدع نفسه ويخدع الآخرين.