في المقامة البِشْرية - وهي آخر مقامات بديع الزمان الهمذاني وأجملها أسلوباً وبناءً قصصياً - يجري حوار ساخر بين الفارس بِشر بن عَوانة وفتى جريء يستخف بما صنعه بِشر من قتل الأسد والحية في طريقه إلى خزاعة، فيقول له: أأن قتلتَ دودة وبهيمة تملأ ماضِغَيك فخراً؟.. لاحِظ التعبير: ملء الماضِغَين فخراً!.. من جانبي: لا أحصي عدد المرات التي تذكرتُ فيها هذه العبارة وأنا أقرأ قصائد الشاعر عبدالله الزيد على امتداد دواوينه العشرة التي اطلعتُ عليها؛ بدءاً من: بكيتُكِ نُوّارةَ الفأل، وانتهاءً بـ: ولو ألقى معاذيره، ولا أعني هنا الفخر بالذات، بل باللغة، فالاحتفاء باللغة: إيقاعاً، ومفرداتٍ، وتراكيبَ لافتٌ جداً عند الزيد؛ حتى يمكن أن نعدّه ظاهرة مستقلة وحده بين الشعراء السعوديين المعاصرين.
من مظاهر احتفاء الزيد باللغة: معجمه الشعري الخاص والمتمايز عن بقية الشعراء، ومن هنا ستعثر لديه على كلمات وتراكيب قلما تصادفها عند الشعراء الآخرين، أو قلّما يكررها هؤلاء الشعراء في قصائدهم، بينما ما يزال الزيد يعود إليها، ويرددها في أشعاره؛ كأنما ليثبت انتماءها الوفيّ لحقله الشعري المغاير للمعجم الشعري السائد في الشعر العربي المعاصر، وتشي هذه الظاهرة لديه برغبة ملحّة في التميز عن الشعراء الآخرين؛ حتى في الجانب اللفظي، ومن هذه الكلمات التي تكاد تكون علامة فارقة عليه: المنتبَذ، والوجيب، والمجدول، والمسجّى، والواكف والوكّاف، وذات الأين.
وهناك ألفاظ أخرى ذات حضور في المشهد الشعري المعاصر؛ ولكنّ إلحاح الزيد على استعمالها، وفي سياقات متباعدة يجعلك تتساءل عن الدلالة الخاصة والمغايرة التي يمكن أن تكون لها عنده، ومنها: الرحيق، والوشم، والمخاصرة، والاشتهاء، والإسراج؛ غير أن أكثر هذه الكلمات لفتاً للنظر في تكرارها أولاً، وفي إثارتها للمفارقات الدلالية ثانياً هي كلمتا: الفأل، ومورِق، فالدلالة الظاهرية لهاتين الكلمتين مرتبطة بالمعاني الإيجابية والمبهِجة للنفس، وقد يظن القارئ المتعجِّل أن تكرار الشاعر لهاتين الكلمتين يوحي بتفاؤله، وإقباله على الحياة؛ غير أن تتبع مواضع هذين اللفظين في قصائد الشاعر يُظهر أن دلالتيهما المبهِجتين موعودتان غالباً بالنفي والانكسار، فالفأل يصبح رديفاً للحلم الضائع، وعلامة على الخيبة المستمرة: (بكيتُكِ نُوّارةَ الفأل... وأَثني من الفأل قامةَ فألي وأُترِعها بحزين امتثالي، لم يعدْ للفألِ مثوى، إذا عدتُ مسخاً يُراوده الفأل أرجوحةً لا تُفيق، وأنهى فألَكَ الداءُ).
أمّا الكلمة الأخرى (مُورِق)؛ فإن معنى الإيراق فيها مفرغ الدلالة؛ لأنه ليس سوى إيراق ظاهري أجوف يتكشّف شيئاً فشيئاً عن الذبول المتغلغِل، والخراب الذي لا حدّ له: عمقاً، وامتداداً: (هل يُورِق البُرء في قسمات الفجيعة... ولا أورقتْ فيّ هذي الشظايا... وأُورِق في شظايا شكّيَ المسفوح... مورِقٌ بالذي لا يكون).
ومن مظاهر احتفاء الشاعر باللغة أيضاً: ما تتسم به ألفاظه وتراكيبه من إيقاع باذخ، فلغته الشعرية عالية الرنين، وهو يفضِّل دائماً الكلمات والتراكيب اللافتة سمعياً وإيقاعياً؛ حتى ليُخيَّل للقارئ أحياناً أن الشاعر حين ينظم قصائده؛ يبدأ بإنشاد أبياتها، ويختبر وقعها بالإلقاء؛ قبل أن يُدوِّنها كتابة؛ أي أن معياره الأول في اختيار الكلمات وإنشاء الأبيات هو: إيقاعها السمعيّ في الآذان.
ولعل هذا ما يفسِّر أيضاً عنايته الشديدة بالقافية، والإيقاعية الوزنية الطاغية في شعره، وإذا كان من المتوقّع أو المفترَض في الشعر التفعيلي أن يكون أقلَّ صخَباً وضجيجاً إيقاعياً من الشعر التناظري ذي الشطرين؛ فإن هذا ليس هو الحال عند عبدالله الزيد، وقد يكون غريباً هنا أن أقول: إن الرنين الإيقاعي لقصائده التفعيلية يتجاوز بمراحل إيقاع القصيدة المشطَّرة عند غيره من الشعراء، ولا يشاركه في هذه السمة الإيقاعية سوى قلة من الشعراء السعوديين المعاصرين، ومن أبرزهم: الشاعرة أشجان هندي، وربما كانت متأثرة به في هذا المنحى على وجه الخصوص.
وعلى مستوى الأساليب يعتمد الزيد بقدر كبير على تقنيات: التكرار، والجناس، والازدواج الموقّع؛ بصورة تذكِّرنا إلى حدِّ ما بصنيع الشعراء العباسيين؛ وإن كان أسلوب التكرار هو أكثر هذه الأساليب حظوة عنده، ويصل فيه إلى حدّ الإسراف، وكثيراً ما يضيف الكلمة إلى نفسها، أو يعطفها عليها، وهو نمط من التعبير شائع عند الشعراء المعاصرين، ومن شواهد هذه الأساليب الإيقاعية عنده: (ثم أنتشل العزمَ من عزمِهِ.. وأنادمه بيقينٍ تقدَّمه ضيفكم.. صيفكم... وينسلُّ منك مجيءُ المجيء... لا تقل: غدنا يحمل النبضَ في نبضِهِ... يا لوجهِ بكاءٍ يودِّعني.. قائمٌ بين شكلي وشكلي.. كلّما جئتُ أسأله عن دمي عن فمي... وكلما عُوفي الوجدان من طللٍ.. أطلّ من طائلِ الذكرى به طللُ... وعاشرتُ أصلي وفصلي.. وثبّتُّ فوق احتفالي بعقلي عِقالي).
بالإجمال: فإن علاقة الزيد باللغة أقرب ما تكون إلى حالة العشق المستبِد، فهو شاعر متغزِّل باللغة من الطراز الأول، وجزالة الألفاظ لديه تصل إلى درجة تثير الدهشة، والنسق التراثي متغلغِل عميقاً في ألفاظه وتراكيبه، وهذه بالمناسبة ليست ميزة في حدّ ذاتها، كما أنها ليست عيباً؛ لأن المهم هنا هو: كيفية توظيف هذه الأنساق التراثية في القصيدة المعاصرة؛ لإعادة اكتشاف الذات والعالم من جديد؛ فهل تحقق هذا عند عبدالله الزيد؟
في مواضع كثيرة من قصائد الشاعر تشعر بأن هذه الأنساق التراثية تتسرّب إلى شعره من محفوظه الواسع؛ دون أن يكون لها وظيفة دلالية حاسمة في تنمية القصيدة، أو تعميق مغزاها الكلي؛ ومن أوضح الشواهد على ذلك: ترديده المستمر لحرف التنبيه: ألا، وكذلك للقسم ذي الصيغة التراثية: (ألا لا تغِبْ... ألا ما الذي ضلَّ من صَلَفي... ألا إنني لم أُصِبْ... ألا لستَ رأسي... ألا ليت لي موئلاً للبكاء... ألا يا ليت إشكالي يخامرني... فَوَربِّ النجاة إذا أسفر اللونُ عن لونِهِ... فَوَربِّ الدموع وعبرتها... وبربِّك غادِرْ بقايا احتمالِ رِثاك... فَوَالذي أوجد الأشجان في خَلَدي... تالله لن أبرحها جنايتي).
وكان يمكن لهذه الأساليب التراثية أن يكون لها دلالات أعمق لو جرى توظيفها في قصيدة محددة؛ لإيصال رؤية شعرية خاصة، أو قراءة جديدة للتراث الشعري القديم؛ غير أن انتشار هذه الأساليب في كثير من قصائد الشاعر يُوحي للقارئ بأن الشاعر متشرِّب للغة التراثية فحسب؛ دون أن يكون قادراً على إعادة إنتاجها من جديد ضمن رؤية شعرية مسكونة بالهواجس الحضارية المعاصرة.
وقِسْ على هذا تناصه المتكرِّر مع الموروث الشعري القديم: (جاءنا مشفِقٌ عارضاً ذاته... قِفا ودِّعا نجداً فبي مثلُ ما بِهِ... ما كنتُ أحسبني أُوفي إلى أمَدٍ)، فالتناص مع التراث في هذه الشواهد وغيرها هو في مجمله تناص تشكيلي، وليس تكوينياً؛ أي أنه مرتبط بالصياغة اللفظية المتأنِّقة أكثر من ارتباطه بالرؤية الشعرية العميقة للقصيدة، ومن هنا أستطيع أن أقول: إن هذا المتغزِّل اللغوي الكبير كان يمكن أن يكون شاعراً أعمق بكثير؛ لو كان اطلاعه الثقافي والفكري بسعة اطلاعه اللغوي والشعري.