أن نجعل الأولوية في الاهتمام بالأدب لمكوّنات نصوصه وتفاعل بعضها مع بعض في النهوض بوظيفته أو نعدّ معناها مضمّنا ببنياتها المادية، افتراض يعسر الوصول منه إلى «الحقيقة» التي يحملها. فهل في الأعمال السردية حقيقة تفصح عنها والحال أن حقيقتها انصراف عن الواقع وقلة احتفال به؟ وأين تكمن هذه الحقيقة والأدب، في نظر الحداثة مجسّمة في البنيوية مثلا، لا يحاكي العالم خارجه وإنما يبدع، بتقنياته الفنية وطرائقه، عوالم مختلقة و متخيّلة متوهّمة يصنعها. وهل يمكن للطرائق الفنية أن تحمل حقيقة أو تفصح عنها؟ قد اعترضت الحداثة على نظرية «المحاكاة» وطعنت فيها كاشفة عن أن الأدب اختلاق وصنع فمكنت، بذلك، من مكاسب لا تنكر واعترضتها عقبات شاقة.
فمن فوائد النقد الذي وجهته الحداثة لنظرية «المحاكاة» أن الأدب وجد نفسه متحرّرا من ضغط الخضوع للواقع خارجه منعتقا من الارتباط به. أصبح بإمكانه أن يغرق في اكتناه ثرائه الذاتي ويتغلغل في أعماق اللغة ومقدراتها. لم يعد المرجع داخلا في المقاييس التي تعيّر بها الأعمال الأدبية فالمعنى الذي تحمله لا يوجد فيه، إنه مضمن بذاتها لا يتعدّاها، وحقيقتها ليست في الرسالة التي تحملها بل هي في اللغة التي تستعملها نفسها. اللغة في الأعمال الأدبية منغلقة على ذاتها بمعنى أن المدلولات لا تتعدّى فيها الدّوالّ.
لكنه يعسر على الأذهان أن تتبيّن، مع هذا الفهم، الكيفية التي تحمل بها الأبنية الناتجة عن الطرائق الفنية المستعملة في تنظيم الأعمال الأدبية معنى أو « حقيقة». لهذا كان أكثر المفاهيم رواجا لدى المطلعين على نقد نظرية «المحاكاة» أن أصحابه يقرّون بأن الأدب لا يحمل معنى ولا يفصح عن حقيقة. بل إنه يبدو، لدى الكثيرين، ضربا من اللعب بالكلام وصوغا لعوالم مختلقة لا تحكمها سوى طلعات فنتازية يبتدعها بعض الكتاب. وبطبيعة الحال فإن الكتابة الأدبية تصبح، في حدود هذا الفهم، ضدّا للكتابة فالمرء يكتب عادة ليقول شيئا. فهل يعقل أن نكتب أو نتكلم دون أن تكون لما نكتبه ونقوله وظيفة أو مقاصد وغايات؟
مع أن مثل هذا الإبداع الأدبي موجود في بعض الكتابات الحداثية التي رفعت، في النصف الثاني من القرن الماضي، شعارات من قبيل « الرواية المضادة» و«الشعر المضاد» و«المسرح المضاد» أو لوّحت بمقولات تشهّر بالمعنى في الأعمال الأدبية وترفضه، وإن كانت دعاواها قد منيت، على أيامنا هذه، بكثير من الانحسار والتقلص، فإن الإصرار على أن الأدب يحمل رسالة ويعبّر عن معنى ويفصح عن حقيقة ظل راسخا في أذهان الباحثين.
عن هذا الرسوخ تولـّد الموقف الذي رأى أصحابه أن الأعمال الأدبية تستعمل «المتوهّم الذي لا وجود له والمختلق والخطأ والغلط» و«ما يكون بغير تمكين واستقامة ومشاهدة»، لكن دون أن تقطع مع «الواقع» قطعا نهائيا، فالصلات التي تعقدها معه تظل، مهما تكن واهية أو ضعيفة، موجودة قائمة. وإنه لمن باب المعجزات أن يستعمل الأدب الاختلاق والتخرّص والتوهم فينتج به أعمالا تحمل عن الواقع معنى وتنطق بحقيقة فيه. إذا كان معظم القراء يدركون، إدراكا تاما، أن السرد اختلاق وتوهّم وتخيّل و» كذب» فإنهم يستمرون في قراءة الأعمال السردية ويتعاملون معها كما لو كانت حقيقية المرجع صادقة الإحالة عليه.
لهذا فإن الأعمال الأدبية، وهي تعتمد التخرّص والاختلاق والتوهّم والتخيّل، تظل تخاطب القراء مخاطبة حقيقية، أو تخاطبهم كما لو كانت مراجعها واقعية. إنها توهم بأنها تكشف عن معنى للعالم والوجود أو حقيقة من حقائقه. وفي معظم الأعمال السردية مثلا نجد للشخصيات ظروفا وأوضاعا ومُثلا وقيما ورغبات واعتقادات وأفعالا ومواقف وفهما للوجود ذاته. ذلك أن هذه الأعمال تحرص على الإيهام دائما بأن ما تتحدث عنه عالم حقيقي به شخصيات ووقائع حقيقية.
بناء على هذا يصبح المشكل متمثلا في التساؤل عمّا يجعل الأعمال الأدبية تستعمل، من ناحية أولى، التخرّص والاختلاق والتوهّم والخيال وتوهِمُ، من ناحية ثانية، بأنها تتحدث عن عالم حقيقي وواقعي ساعية إلى الإقناع به. ألا يعني هذا أنها، وهي تظهر أنها لا تأبه بالواقع ولا تهتم بالمرجع، توحي بأنها لا تقطع معهما قطعا نهائيا؟
مثل هذا الفهم للأعمال الأدبية قد أدّى إلى الاعتقاد في أنها تحمل معنيين، أحدهما حرفي أو سطحيّ والآخر خفيّ أو عميق. المعنى الأول مجاله النص فهو يتكفل بعرضه فنيّا بطرائقه الخاصة مستعملا في ذلك الخيال والتوهم والاختلاق، والثاني عميق فيه إخبار عن العالم وتصريح بالحقائق. والمعنى الثاني يدرك بالتأويل. والفعل التأويلي هو الذي يُكسب الأعمال الأدبية تجددا مستمرا يتجاوب مع تحوّل القراءات في التاريخ وظهور أسئلة جديدة تتطلب فهما جديدا للحقيقة التي تحملها. والمعروف، مثلا، أن الأساطير والأعمال ا لأدبية الكبيرة قد ظلت تقابل بكثير من القراءات. فما اشتقه فرويد، على سبيل المثال، من أسطورة « الملك أوديب» لم يكن ممّا يخطر على أذهان القراء القدامى، وأعمال ميلفيل تحمل نقدا لاذعا للجدلية واللبرالية في آن واحد، والغزل العذري في الأدب العربي، يدلّ على الحرمان من الفعل في الواقع من خلال البكاء على الحرمان من المعشوقة.
غير أن القول بالمعنيين، السطحي والعميق، يبقى مشدودا إلى مفهوم «المحاكاة» الذي قطعت معه الحداثة إبداعا وتنظيرا. ذلك أن القطع مع « المحاكاة» هو قطع أيضا مع نوع من المعرفة كان مسيطرا إلى ما يُعرف ببدايات العصر الحديث. إنها المعرفة التذكريّة المتعلقة باستحضار صور الموجودات وأمثلتها. ثم إنه قطع أيضا مع التصوّر الساذج للتفكير. ففي هذا التصوّر الساذج نجد ثلاثة عناصر هي الذات المفكرة والموضوع المفكـّر فيه والعلاقة بينهما وهي الفكرة الحاصلة في الذهن. وهذه الفكرة تعدّ حقيقة متى كانت مطابقة للمفكـَّر فيه أو صورة محاكية له إلى حدّ المشاكلة. ومن هنا كان ما أصبح يصطلح عليه باستبداد الواقع بالفكر وتحكمه فيه.
على هذا النحو من التفكير التذكري ينتفض الأدب معترضا عليه. فالأعمال الأدبية تخلق عالما هي نفسها مرجعه. إنه عالم مكتف بذاته لا يحيل على شيء خارجه يقيس عليه « حقيقته». وقيمة الأعمال الأدبية تكمن في تماسكها واكتفائها بذاتها واستقلالها ومثولها «معالم» قائمة الذات لا كانعكاس أو صور لواقع خارج عنها تستمد قيمتها من قدرتها على إدراكه بالتذكر. لا يمكن للأدب إذن أن يبدع صورة للعالم أو يخبر عن الوجود أو ينقل رسالة عنه فهذه أمور تستعمل فيها اللغة ويصلح لها الكلام. وهذا يوصل إلى أن الحقيقة في الأدب هي حقيقته منفصلة عن المحاكاة والتذكر. فكما أن الأدب يستعمل الاختلاق والتخرّص والتوهم والخيال لبناء كيانه معالم مستقلة ومكتفية بذاتها يتخذ من الحقيقة موقفا آخر خارج ما عهدنا من عمليات التذكر المعرفية. فما الذي يترتب عن هذا كله في ما يتعلق بالوظائف التي ينهض بها الأدب والحقيقة التي يفصح عنها؟