هناك أحداث سياسية اجتماعية كبيرة ساهمتْ بقوة في تغيير مسار الإنسانية كلها، ومن ذلك مثلا (الثورة الفرنسية)، التي لم يتوقف تأثيرها على أوروبا وحدها، بل امتد لجهات مختلفة من العالم، فنمتْ بعدها كثير من الجمهوريات والديمقراطيات الليبرالية، وانتشرتْ وتمددتْ العلمانية، وتطوّر وتبلور - بتأثيرها- عددٌ كبيرٌ من الأيديولوجيات الحديثة المختلفة.
وهناك ثورات مرتبطة بالاختراعات، التي غيَّرتْ حياة البشر تغييرًا جذريًا، ومن أهمها بلا شك (ثورة الكهرباء) التي بدأتْ مع أديسون، الذي أضاء العالم كلّه بمصباحه الكهربائي المتوهج العظيم.
وهناك نظريات كبيرة كثيرة أيضًا قلبت الدنيا رأسًا على عقب، وأثرت على الإنسانية تأثيرًا بالغًا، ومنها نظرية الراهب والفيلسوف الطبيب الفلكي البولندي كوبرنيكوس مثلا، التي أظهرتْ أن الأرضَ هي التي تدور حول الشمس، بعكس ما كان سائدًا قبله.
وفي الفلسفة أيضًا كتب من هذا الطراز أو على هذا المنوال، وعلى رأسها كتاب عمانويل كانط الذي نحن بصدده، فقد أحدث «نقد العقل الخالص» ثورة كبيرة، خاصة لفلسفة ما وراء الطبيعة، التي تُعدُّ من أهم فروع أو موضوعات أو جوانب الفلسفة بلا شك.
وبناء على ذلك: ليس غريبًا أن نجد أقوالاً من قبيل قول هيجل مثلا: «لن يكون المرء فيلسوفاً حتى يدرس كانط». فكانط أراد أن يغير منظورنا ورؤيتنا للعالم كله، من خلال آرائه عامة، وخاصة كتابه هذا، الذي أكدَّ فيه على أن الإنسان إذا رغب في معرفة حدود عالمه، فيجب عليه أن يعرف حدود قدرته الذاتية على المعرفة أولا.
لقد عمل كانط على كتابه أكثر من عقد من الزمن، ونشره للناس وهو على أبواب الستين من عمره.. لقد فعل ابنُ الحرفيّ الألماني البسيط ما لم يستطع غيره فعله في الفلسفة، حتى أصبح عن جدارة أستاذاً جامعيًا للمنطق وفلسفة ما وراء الطبيعة، فهو -حسب علمي- أول فيلسوف في التاريخ، يشغل كرسيًا في الجامعة.
واللافت هو أن كانط كان متعصبًا جدًا -في بداياته- لمذهبه العقدي، وقد اعترفَ بفضل فيلسوف النهضة الاسكتلندي الكبير دافيد هيوم، الذي يرتبط اسمه بالوجودية المؤمنة، فقد أثر هيوم على كانط بقوة، من خلال أمور كثيرة منها:
1- لا توجد أية معرفة بدون تجربة وفحص وتمحيص.
2- لا توجد معرفة تقف على أساس يقيني مطلق.. وفي هذا يقول كانط كلامًا نسيتُ نصه، معناه: «كنتُ غارقا في النوم حتى أيقظني هيوم من سباتي الدوغمائي العميق».
المهم هو أن كانط يفرّق في كتابه بين قدرات معرفية ثلاث هي: المشاهدة الحسية المرتبطة بتصوراتنا عن المكان والزمان، والفهم الذي ينسق هذه التصورات بواسطة المصطلحات، والعقل الذي يحفزنا على تنسيق المصطلحات في ضوء وحدة أعلى.
لقد حاول كانط أن يوضح خطأ النزعة العقلية المجردة في غالب أحوالها، وكذلك خطأ النزعة التجريبية المجردة، فالتصورات العقلية دون انطباعات أو إدراكات حسية تكون جوفاء فارغة غالبًا، والانطباعات أو الإدراكات الحسية أيضًا –في المقابل- بغير التصورات العقلية تكون عمياء ناقصة.. والمعنى هو أن الأطر العقلية المستقلة عن الحواس، أي التي لا تستند أو لا تلتفت إلى الحس، لا تعطي إلا مغالطات ومتناقضات عقلية. والعكس صحيح عند كانط، فنتائج الحواس دون أطر عقلية ما هي إلا انطباعات مختلة، لا تعكس إلا الفوضى المعرفية العلمية.
فالمشاهدة الحسية إذن تتشارك مع الفهم -حسب كانط- في نشأة خبرتنا بالعالم، وتتشارك أيضًا معه في إنتاج معارف حقة يمكن التأكد من صحتها.. أما العقل، فهو يطرح التساؤلات الكثيرة، فيدخلنا بها في دهاليز وأنفاق المشاكل الكبيرة، ثم يتركنا وحدنا.. إن العقل –عند كانط- يلزمنا بأسئلة لا يستطيع هو أن يجيب عنها!.
إنها الأسئلة الكبرى والنهائية للفلسفة: هل هناك إله؟ هل توجد حرية للإنسان؟ هل توجد روح خالدة؟ إننا لا نستطيع التهرب من هذه الأسئلة، ولذلك ظل الفلاسفة على مر العصور في ارتباط قوي بفلسفة الغيبيات.
لقد ظهر لي جليًا أن كانط كان من المؤمنين بالله، بل لن أبالغ لو قلت: إنه كان من أشد المؤمنين به، وهذا واضح في كتاباته؛ إلا أن إيمانه كان مختلفاً عن كثير من الإيمانات الأخرى، فهو دائمًا يُرجع الإيمان إلى وجدان الإنسان وشعوره الداخلي النفسي.. أي إلى الضمير أو (القانون الأخلاقي) إن صح التعبير، وهذا الضمير أو القانون الإنساني كوني مطلق في نظر كانط.
يعتقد كانط أنه ليس من اختصاص الإنسان الإجابة عن الأسئلة الكبيرة المؤرقة مثل: هل الروح خالدة؟ أو: هل الله موجود؟! فهو يعتقد أن العقل غير قادر على حسم الجدل غالبًا في هذه المواضيع وغيرها من الأسئلة والمواضيع المشابهة؛ ولكنه –وهذا مهم- أكدَّ وكرر وأصرَّ كثيرًا على أن قبول فكرة «وجود الله» هو ضرورة أخلاقية.
كانط يرى بكل بساطة أننا لن نستطيع أبدًا الوصول إلى معارف يقينية عن الله والحرية والخلود، وما شابه؛ لأن كل ما نستطيع معرفته حقيقة لا يخرج عن دائرة الرؤية الحسية، وعالم المعرفة والخبرة والفهم القائم عليها.. كما يرى أن العقل ينتج ويعمل بقوة عندما يواجه مسائل أساسية، ولكنه يؤكد –دائمًا- على أن التمييز بين الخير والشر هو شيء من الواقع في النهاية.
لقد أذهل كانط وصدم كثيراً من الفلاسفة الذين تحدثوا بشكل مختلف عن حديثه عامة، وخاصة في فلسفة ما وراء الطبيعة أو (الغيبيات)، ومنهم مثلا فيلسوف النهضة الألماني الشهير موسيس مينديلزون، الذي نشر في عام 1767 كتابًا عن خلود الروح.
لقد فنَّد كانط ما ورد في كتاب موسيس وأمثاله وما أكثرهم، وخلاصة تفنيده تتلخص في أنه لا يكفي امتلاك مصطلحات عن الروح الخالدة أو عن الله أو عن غيرها من الماورائيات.. لا يكفي امتلاك تلك المصطلحات وأمثالها لإثبات وجود الأشياء من خلال المنطق وتحليل المصطلح فقط، بل لا بد من المعلومات التجريبية، ولهذا لا يمكن الوصول إلى نتائج يقينية.
كما أكدَّ كانط على أن الوعي إذا كان يتشكل انطلاقاً من الأشياء، فإن الأشياء بدورها تتشكل أيضًا انطلاقاً من الوعي، ولذلك جاء فهمُ الإنسان -في نظر كانط- بصورة تتناول كلَّ حدثٍ في إطار علاقة السبب بالنتيجة غالبًا، حيث ميّز وفرّق بدقة ووضوح عاليين بين الشيء لذاته والشيء بالنسبة للأنا، أي بالنسبة لكل إنسان ورؤيته الخاصة.. وفي الحقيقة أني أحببتُ كلامه في هذه المسألة، فكثير من مشاكلنا أثناء الحوار، تنتج عن عدم فهم هذه النقطة، أي أن الأشياء تظهر في نظر زيد، بشكل يختلف عن نظرة عمرو، فيتجادلان ويتصارعان فكريًا، رغم أن الحقيقة –في كثير من الأحيان- تكون بعيدة عن نظرتيهما!.
هاجم الكثيرون كانط، ووصفه البعض بـ (فيلسوف الدمار الشامل لكل شيء)، بعد أن وضع حدودًا جديدة دقيقة للمعرفة الإنسانية المؤكدة، أي أنه كشف -من خلال هذا الكتاب وغيره- أن الأرض التي يمكن أن تتحرك عليها المعرفة الإنسانية اليقينية أصغر بكثير من اعتقاد كثير من الفلاسفة، والحقيقة أن هذا –في نظري- هو أجمل وأفضل مدخل لفلسفته.
إن كانط يحاول في كتابه هذا التفريق بين الفلسفة النقدية التحليلية التي تتحرك على مرتكزات يقينية، وبين التأمل النظري غير النقدي.. وهذا ما دفع عددًا من كبار الفلاسفة إلى الإذعان لما أورده كانط في هذا الكتاب، ومنهم نيتشه، الذي أعلن اقتناعه بكثير مما جاء في كتاب كانط، واعتبره ثورة عقلية كبرى.
كما أن كتابات كانط احتوتْ على كثيرٍ من الوصايا القيّمة، ومنها مثلا أنه يوصي كلَّ إنسان محب للحكمة أن يتصرف دائمًا وكأنه يتعامل مع البشرية كلها ممثلة بشخصه.
والخلاصة هي أن كتابه هذا ثورة في طريقة التفكير، ولكن فهمه يجب أن يتم بنظرة بانورامية شاملة، لا بالنظر إلى زاوية الشك والنفي فقط، فقد يفهم البعض أن الكتابَ قتلَ العقلَ بشكلٍ نهائي، وأن مفاهيم مثل: الله، والحرية، والخلود، لم تعد إلا قشور كلمات فارغة من المحتوى، وهذا ليس صحيحاً بالتأكيد.
فكانط ينفي ذلك بنفسه نفيًا قاطعًا في عدة مواضع، منها قوله: إننا نحتاج إلى أفكار العقل عن الله، والخلود، والروح، والحرية، وما شابه ذلك.. إننا نحتاج إليها كأفكار تنظيمية لحياتنا.. فكانط يؤكد –دائمًا وأبدًا- على أنها أفكار ضرورية جداً لعملنا الأخلاقي، فهي قواعد ومبادئ العمل، وإذا تخلّينا عنها فهذا يستلزم بالضرورة تخلينا عن فهمنا لأنفسنا على أننا مخلوقات رشيدة ومسؤولة أخلاقيًا، وعن ثقتنا في النظام الأخلاقي للعالم، وهذا سيحدث كوارث لا نهاية لها.
ومن الجميل أن نورد هنا قول كانط: «مع أن فلسفة ما وراء الطبيعة لا تستطيع أن تكون قواعد أساسية للدين، إلا أنها يجب أن تكون سلاح الدفاع في كل وقت».
لقد قبل كانط فكرة التجريبيين حول أن تجربة الحواس هي أساس مهم للمعرفة بشكل عام؛ ولكنه أضاف أن العقل وحده في النهاية، هو الذي يملك الشروط اللازمة لتحليل كيفية إدراكنا للعالم..
وأضاف أيضًا أن هناك معرفة أخرى موجودة في العقل المحض المستقل تمامًا عن كل أنواع التجربة والحواس، أو لنقل: أضاف أن الإنسان يحصل أحيانًا على بعض المعرفة بالعقل فقط، دون أي اعتماد على ما تأتي به الحواس من العالم المدرك بها، ومن هنا يظهر جليًا أن كانط، خالف الفلاسفة الذين كانوا يرون أن المعرفة كلها تستمد من الحواس فقط، فقد كان يعتقد أن طبيعة تكوين العقل البشري، تسمح له –أحيانًا- بالحصول على شيء من المعرفة، بلا أيّة استعانة بأيّة حاسة من حواس صاحبه.
ونستطيع أن نقول: أهم ما قام به كانط في كتابه «نقد العقل المحض»، أنه وقف بحزم أمام غرور العقل الإنساني، مع أنه في نفس الوقت يصرُّ على عظمته ويثني على إبداعاته.. لقد هبط كانط بفلسفة الغيبيات من أبراجها العاجية التأملية النظرية إلى أرض البحث والتجربة والتدقيق.. والقضية برأيه هي قضية معرفة, فكان السؤال الكبير الذي تتمحور حوله جلُّ كتاباته في فهمي، هو: أيّ معرفة يمكن للإنسان أن ينال ويصل؟
لقد نجح كانط –في رأي الكثيرين- في إخراج الفلسفة من الصراع الذي كانت فيه بين العقلانيين والتجريبيين، حيث حسم موقفه بوضوح من ذلك، فهو يرى بكل تبسيط، أن العقلانيين بالغوا في دور العقل، وأن التجريبيين بالغوا أيضًا في الوقوف على التجارب الحسيّة.
ونختم بهذه المعلومة، وهي أن كانط هو رائد وعراب فكرة «الأمم المتحدة»، وصاحب السبق الأول لها، حين طرح في كتابه (السلام الدائم) فكرة إيجاد عصبة للأمم، تحكمُ في النزاعات الدولية، وتعزز السلام في العالم.. ونلتقي مع جون لوك في المقالة القادمة بمشيئة الله العظيم.