(1)
كادت نظرية البنيوية المشهورة أن تكون فتحاً معرفياً غير مسبوق في تاريخ البشرية الحديث لولا أن كان هناك قصور في معطيات وفرضيات تلك النظرية أدى إلى ضبابية في الرؤية والمنهج أمام أعين رواد تلك النظرية ومن تبع خطاهم وقلدهم من البنيويين العرب.
إن ما حدث لرواد البنيوية يشبه إلى حدٍّ كبير حكاية أربعة رجال وطئت أقدامهم الصحراء لأول مرة في يوم عاصف لا تكاد الرؤية تتضح فيه، ورأى كل منهم حسب مقدار رؤيته حيواناً في ذلك المكان وراح كل منهم يصف ما رأى، أحدهم وصف ذلك الحيوان بأن له رقبة طويلة وأخذ يقيس على حيوان الزرافة ويشبهه بها، وآخر قال إن له جسماً ضخماً وراح يشبهه بوحيد القرن، وثالث رأى أن ظهره مرتفع وصار يشبهه بارتفاع ظهر الفيل، والأخير رأى منه أرجله وراح يشبه دقتها بدقة أرجل النعامة، وهكذا اختلطت الرؤية مما أدى إلى الفشل في الوصول إلى الصورة الحقيقة لذلك الحيوان ولذلك اختلفت التصورات والأحكام، وكما هو معروف فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
هذه الحكاية تصور باختصار المأزق الذي وقع فيه البنيويون، وكل ما في الحكاية أن ذلك الحيوان لم يكن إلا حيوان الجمل (البعير)، ولو عرض لهم البعير بصورته الواضحة؛ لاستطاع كل واحد منهم التعرف عليه ودراسته بالتفصيل ومعرفة حياته وفوائده وكيف يمكن تسخيره لخدمة الإنسان وهذه هي قيمة المعرفة الصحيحة وتطبيقاتها.
والسؤال الآن هو: ما الذي كانت تحتاجه نظرية البنيوية؟!..
السؤال بصيغة أخرى: إذا أردنا أن نبني نظرية بنائية بيانية لسانية جديدة، فما الذي نحتاجه، وما هي المعطيات والفرضيات التي كانت وما زالت تنقص نظرية البنيوية ونظرية ما بعد البنيوية؟..
هنا يأتي دور القرآن الكريم كمرجعية معرفية شاملة متكاملة؛ يمكن الاستفادة منه للوصول إلى المعطيات أو المكونات التي نحتاجها لاستنباط النظرية البنائية الجديدة، وهذه المعطيات أو المكونات تتركز في أربعة أشياء رئيسة هي:
أولاً: النص المحكم القياسي، والمقصود بكلمة قياسي أي يمكن القياس عليه من ناحية بنائية وبيانية كما ذكرت سابقاً وشرحت في المقالة السابقة، وذلك هو القرآن الكريم.
ثانيا: العلاقة المرجعية البنائية القياسية، وهي العلاقة التي تنتظم وتشمل جميع عناصر البنية المدروسة، وهي العلاقة التي تربط الجزء بالجزء وتربط الجزء بالكل، وتربط ما هو داخل النص بما هو خارج النص، وأقصد بها العلاقة القرآنية المستنبطة من نص القرآن الكريم.
ثالثاً: اللسان البياني القياسي، وأقصد به ذلك النظام اللساني المحكم ذي الخصائص البنائية والبيانية التي يمكن القياس عليها، هذا اللسان القياسي هو اللسان العربي المبين الذي أنزل به القرآن الكريم للعالمين كافة من إنس وجن، وكدليل على تميز وفرادة اللسان العربي مما يجعله اللسان القياسي هو أن الحرف العربي، حين ينطقه اللسان العربي، يتكون من ثلاثة أصوات، فمثلاً حرف الألف ينطق هكذا: همزة ثم لام ثم فاء، أي ثلاثة أصوات محددة وواضحة؛ بمعنى ثلاثة أبعاد صوتية وهذا ما نحتاجه لدراسة البنية، لأن البنية لا تكون بنية حقيقية إلا إذا كان لها ثلاثة أبعاد تمتد في الفضاء ويكون لها تجسيد ذو ثلاثة أبعاد، وهذه الخاصية تنطبق على جميع حروف اللسان العربي الثمانية والعشرين، وهذه مسألة علمية بعيدة عن العاطفة الشخصية.
والجدير بالذكر أن اللغات التي انطلق منها منظرو البنيوية الأوائل لا تملك هذه الخاصية، فالحرف اللاتيني، على سبيل المثال، مكون في غالبه من صوتين فقط وهذا يعتبر نقصاً بنيوياً يؤثر في رسم الصورة الحقيقة للبنية اللسانية المدروسة، وسيأتي تفصيل ضرورة هذه الخاصية لبناء النظرية البنائية في حينه.
رابعاً: العلامة (البنية) اللسانية القياسية، وهي العلامة التي تشمل وتحيط بكل العلامات اللسانية الأخرى؛ وأقصد بهذه العلامة أو البنية اللسانية حرف (النون)، على وجه التحديد، وسنكتشف في المقالات القادمة كيف عرض القرآن الكريم حرف النون عرضاً خاصاً يشير إلى فرادة هذا الحرف وما فيه من خصائص بنائية وبيانية خاصة؛ ولا يخفى على خبراء اللغة العربية ما لهذا الحرف من خصائص صوتية عجيبة ترتبط بخصائص هذا اللسان العربي (القياسي) المبين.
إن هذه المعطيات أو المكونات الأربعة تتكامل وتتفاعل مع بعضها البعض فالعلامة اللسانية القياسية وهي تمثل مرجعية لسانية حقيقية (ولها طبيعة مركزية عامة) تساعد في دراسة العلاقة المرجعية البنائية القياسية المذكورة في الفقرة الثانية وتساعد في دراسة النظام اللساني المذكور في الفقرة الثالثة وذلك في سياق النص المحكم القياسي المذكور في الفقرة الأولى، ولذلك فإن هناك ترابطاً بنائياً وبيانياً بين تلك المكونات أو الأشياء الأربعة، بمعنى آخر فإن النص المحكم مبني حسب العلاقة البنائية القياسية وهذه العلاقة مبنية حسب النظام اللساني القياسي والنظام اللساني القياسي مبني حسب العلامة القياسية، وبذلك تكون المعطيات كافية للانطلاق نحو وضع الفرضيات الأولى ومن ثم الانطلاق في بناء النظرية البنائية اللسانية التي ستكون الأساس في بناء نظرية الأدب، ونظرية الأدب (أو النظرية الأدبية) ستكون الأساس في بناء النظرية النقدية الأدبية. وهذا هو التدرج المعرفي المطلوب؛ فإنه لا يمكن الوصول إلى نظرية نقدية أدبية قبل أن يكون لدينا نظرية أدبية ولا يمكن الوصول إلى نظرية أدبية قبل أن يكون لدينا نظرية بنائية لسانية نستلهم منها المعرفة المطلوبة لتعريف وتحديد (المعاني القياسية) لمصطلح الأدب ومصطلح النقد.
أخيراً، إن فشل البنيوية وانتقال منظروها للحديث عن نظرية ما بعد البنيوية ما هو إلا بسبب القصور في المعطيات والمكونات الضرورية لبناء النظرية، حيث لم يكن لدى منظري البنيوية نص قياسي يمكن له أن يكون مرجعية معرفية يمكن القياس عليها والاستنباط منها؛ ولم تكن لديهم العلاقة القياسية القرآنية، ولم ينطلق منظرو البنيوية من دراسة اللسان العربي ولم تكن لديهم العلامة البنائية القياسية؛ ولذلك كانوا كمن يهيم على وجهه في صحراء التيه المعرفي؛ ليس له ما يرجع إليه أو يهتدي به.
بعد هذا العرض الموجز للقصور الذي عانت منه نظرية البنيوية؛ وحسب هذه المعطيات أو المكونات الأربعة التي يختص بها القرآن الكريم، كتاب الله رب العالمين؛ أستطيع أن أقول إن عصر البنيوية أو ما بعد البنيوية ما هو إلا عصر القرآن الكريم، وأن نظرية ما بعد البنيوية ما هي إلا النظرية البنائية القرآنية وهي التي ستقودنا، بإذن الله تعالى، إلى حقبة معرفية جديدة على عدة مستويات معرفية غير مسبوقة متى ما بذلنا في دراستها ما تستحق من الجهد والصبر والمثابرة.
والله تعالى أعلم،،،