ذكر سيبويه أحرف الحلق الستة (الهمزة والهاء، والعين والحاء، والغين والخاء)، وذكر من المحدثين إبراهيم أنيس أنّ هذه الأصوات الستة هي أصوات الحلق، وأنها تميزت بها اللغات السامية، (الأصوات اللغوية، ص74)، ولم يعدّ القدماء القاف التي يقرأ بها اليوم منها؛ لأنهم تحدثوا عن قاف هي ما نسمعها في بعض عاميات الجزيرة وصعيد مصر، وهي ما تطابق الجيم القاهرية نطقًا (انظر: الأصوات اللغوية لكمال بشر، 2: 276) وهذه القاف طبقية مجهورة لا لهوية مهموسة.
ولهذه الأصوات الستة تأثير ملحوظ بيّنه علماء العربية القدماء، ومنه ما يلحظ في اللهجات المعاصرة أيضًا، ومن ذلك ما يلاحظ في هذه الظواهر:
1-أنّ النون الساكنة لا تدغم فيها ولا تخفى بل تظهر؛ لبعد مخرجها عن تلك الأصوات الستة، قال تعالى ?قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ?[البقرة-67]، ?بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ?[الحجرات-17]،?قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ?[الأنعام-15]، ?ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ?[البقرة-199]، ?أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ?[الطور-35]، ?وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ?[البقرة-74]،
2-أنّ (لام التعريف) لا تدغم فيها، فتظل قمرية (الأحد، الهرم، العمل، الحمد، الغسق، الخرج).
3-أن»كل ما كان على وزن فَعِل من الأسماء والأفعال وثانيه حرف من حروف الحلق ففيه أربعة أوجه: أحدها استعماله على أصله كقولك فَخِد وقد ضَحِك، والثاني إسكان عينه تخفيفًا كقولك: فَخْد وقد ضَحْك، والثالث: إتباع فائه عينَه في الكسر كقولك: فِخِذ وقد ضِحِك، والرابع: كسر فائه وإسكان عينه لنقل كسرتها إلى الفاء، نحو قولك: فِخْذ وقد ضِحْك، فكذلك نِعْم فيها أربع لغات: نَعِم بفتح النون وكسر العين، وهو الأصل، ونَعْم، بفتح النون وسكون العين، ونِعِم، بكسر النون والعين، ونِعْم، بكسر النون وسكون العين»(الأنباري، أسرار العربية، 102- 103).
4-أنَّ الأفعال الثلاثية المجردة تفتح العين من ماضيها ومضارعها إنْ كانت العين أو اللام من أحرف الحلق، قال ابن السراج في باب فعَل يفعَل من حروف الحلق: «اعلَمْ: أَنَّ يَفْعَلُ إِذَا قلتَ فيهنَ: فَعَلَ يَفْعَلُ مفتوحُ العينِ، وذلَكَ كانتِ الهمزةُ أَو الهاءُ أَو العينُ أَو الغينُ أَو الحاءُ أَو الخاءُ (لامًا) أَو (عينًا) نحو: قَرَأَ يَقْرَأُ، وَجَبَهُ يَجبَهُ، وقَلَعَ يَقْلَعُ، وذَبَحَ يَذْبَحُ، ونَسَخَ يَنْسَخُ. وهَذا ما كانتْ فيهِ لاماتٌ، وأَما ما كانت فيهِ عيناتٌ فَهْوَ كقولِكَ: سَأَلَ يَسْأَلُ، وذَهَب يَذْهَبُ، وبَعَثَ يَبْعَثُ، ونَحَلَ يَنْحَلُ، ونَحَرَ يَنْحَرُ، وَمغَثَ يَمْغَثُ، وذَخَرَ يَذْخَرُ»(الأصول في النحو، 3: 102)، فكل أفعال هذا الباب عينها أو لامها حرف حلق، ولا يعني هذا أنّ هذه الأفعال لا تأتي من أبواب أخرى بل الأصل أن تأتي من أبواب أخرى، قال ابن السراج «وقَدْ جاؤوا بأَشياءَ منهُ علَى الأصلِ قالوا: بَرَأَ يَبْرُؤُ كمَا قالوا: قَتَلَ يَقْتُلُ، وهَنَأَ يَهنِئُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ... وقالوا: نَزَعَ يَنْزِعُ وَرَجَعَ يَرْجِعُ ونَضَحَ يَنْضِحُ ونَطَحَ يَنْطِح وَرشَحَ يَرْشِحُ وجَنَحَ يَجْنِحُ ... وقالوا: صَلَحَ يَصْلُحُ وَفَرَغَ يَفْرُغُ وصَبَغَ يَصْبُغُ ومَضَغَ يَمْضُغُ ونَفَخَ يَنْفُخُ وطَبَخَ يَطْبُخُ ومَرَخَ يَمْرُخُ» (الأصول في النحو 3: 102)، وأما ما جاء مفتوح العين من سوى الأفعال التي عينها أو لامها حلقيٌّ فهو من تداخل اللغات، قال ابن جني: «ولكن قد جاء له نظير؛ أعني قولنا : هلَك يهلَك، فعَل يفعَل، وهو ما حكاه صاحب الكتاب من قولنا: أَبى يأبَى، وحكى غيره: قنَط يقنَط، وسلَا يسلَى، وجبا الماء يجبَاه، وركَن يركَن، وقلا يقلَى، وغسا الليل يغسَى. وكان أبو بكر يذهب في هذا إلى أنها لغات تداخلت؛ وذلك أنه قد يقال: قنَط وقنِط، وركَن وركِن، وسلَا وسلِي، فتداخلت مضارعاتها، وأيضًا فإن في آخرها ألفًا، وهي ألف سلا وقلا وغسا وأبي؛ فضارعت الهمزة نحو: قرأ وهدأ»(المحتسب، 1: 120).
5-أن الأسماء والصفات على (فَعِيل) تكسر فاؤها في لغة تميم، قال ابن السراج «وفي (فَعيلٍ) لُغتانِ: فَعِيلٌ وفِعِيلٌ، وتكسرُ الفاءُ في هذَا البابِ في لغةِ تَميمٍ نحو: سِعِيدٍ، ورِغيفٍ، وَبِخِيلٍ، وَبِيِئسٍ، وأَمَّا أَهلُ الحجازِ فيجرونَ جميعَ هَذا على القياس»(الأصول في النحو، 3: 102).
6-أن همزة الوصف (أَفْعَل)، في بعض لهجات الجزيرة، قد تحذف فتتحرك اللام (الْأَسْمَر) الَسْمر)؛ غير أنه يستثنى من هذه القاعدة ما كانت فاؤه حرف حلق إذ تحذف الهمزة؛ ولكن تحرك الفاء بالفتحة بعد قلب مكاني بينهما (الْأَحْمر) الْحَمر، الْأَخْضر) الْخَضر، الْأَغْبر) الْغَبر، الْأَعْرج) الْعَرج ، الْأَهْدل) الْهَدل)، وهذا مشروط بكون العين واللّام غير مدغمين؛ إذ تطبق القاعدة الأولى (الْأَحَرّ) الَحَرّ، الْأَخَصّ) الَخَصّ، والْأَهَمّ) الَهَمّ، الْأَعمّ) الَعَمّ، الْأَغرّ) الَغَرّ)، ولولا ذلك لالتبس بما هو معرف من الأسماء على بناء فَعْل (الحَرّ، الخَصّ، الهَمّ، العَمّ، الغَرّ).
7-أنَّ اسم المفعول من الثلاثي (مَفْعول)، في بعض لهجات الجزيرة المعاصرة، تسكن الميم منه وتفتح الفاء إن كانت من أحرف الحلق: (مَهْجور) مْهَجور، مَعْروف) مْعَروف، مَحْروم) مْحَروم، مَغْسول) مْغَسول، مَخْدوم) مْخَدوم)؛ ولذلك تُدخل بعض اللهجات همزة الوصل: امْهجور، امْعروف، امْحروم، امْغسول، امْخدوم. وأما إن كانت الفاء همزة فالغالب أن يتخلص منها بالحذف ومطل الفتحة تعويضًا: مَأْمور) مامور.
8-أنَّ حرف المضارعة من الثلاثي يسكن بنقل فتحته إلى الفاء، في استعمال بعض لهجات الجزيرة، إن كانت الفاء منه حرفًا حلقيًّا: (يَهْدر) يْهَدر، يَعْرف) يْعَرف، يَحْلف) يْحَلف، يَغْسل) يْغَسل، يَخْرج) يْخَرج)، ولذا يدخل بعضهم همزة الوصل (ايْهدر، ايْعرف، ايْحلف، ايْغَسل، ايْخرج)، أما إن كانت الفاء همزة فتحذف وتمطل الفتحة تعويضًا (يَأمر) يامِر).