«وراء كل ثقافة كراهية خطاب أسود»
عندما نتحدث عن العلاقة بين السنّة والشيعة في السعودية فلابد أن نراعي عدة محاور أهمها ما سيأتي أو هكذا أعتقد.
المجتمع السعودي مجتمع متدين بطبعه وبأفكاره مثل كل المجتمعات العربية، لكن المجتمعات العربية تختلف عن المجتمع السعودي ؛ والاختلاف هنا ليس بقيمة تمييزية أو قيمة تفاضلية أو تكاملية بقدر ما هو إضافة تؤثر على حركة طبع الجماعات وطريقة تفكيرها.
وهناك ثلاث صفات يمكن رصدها غير مشتركة بين المجتمع السعودي وبقية المجتمعات العربية في التعامل مع قضية الشيعة والسنّة.
الصفة الأولى وجود سعة لثقافة التعددية الدينية في المجتمعات العربية، وتلك الثقافة تكاد أن تكون مفقودة في المجتمع السعودي؛ وهذا الأمر بدوره يُمكن أن نسلسله بخلفيتين؛ أولاهما «التاريخ الديني لشبه الجزيرة» المرتبط بأحادية المعتقد كونها مصدر الدعوة ، والمصدر كما يعتقد البعض يجب أن يكون حاملا لجذر صحيح أحادى لا يقبل القسمة على معتقدين هذا من جانب ، والجانب الآخر المتعلّق بخلفية التاريخ ما كان شائعا من ممارسات دينية في هذه المنطقة تجاوزت صحة الأصل وأعرافه، مما جعل فرض الأحادية قدرة في التحكم في إثبات صحة الأصل وطرد ما تجاوزه.
والأمر الآخر المتحكم في خلفية غياب ثقافة التعددية الدينية بصورة واضحة هي طبيعة الوعي الديني لسكان شبه الجزيرة سواءٌ الأصليون بالمنشأ أو الأصليون بالاختيار والتوافد.
إن فكرة أن الدين الصحيح هو اللاقابل للتعددية وسلامة الصحة قائمة على إثبات الأحادية وأن التعددية الدينية مُفسِدة لفكرة التوحيد، كما أنها داعمة لنشر البدع والضلالات وتشريعهما ؛ هذه هي طبيعة الوعي الديني لسكان شبه الجزيرة العربية.
لقد عانت هذه المنطقة قبل «حركة التصحيح الديني» من فساد معتقديّ كان ناتج «الحرية الدينية « في ظل العثمانيين والأشراف الذين حكموها؛ أو هذا ما أعتقده أوائل مؤسسي حركة التصحيح الديني، وبذلك ارتبطت الحرية الدينية وما يعادلها من تعدد مذهبي بفساد المعتقد، وهو ارتباط يُعيدنا إلى مفهوم «الحرية» وما يحيطه من تضليل متعمد من قٍبل معسكر الاعتقاد.
عندما نبحث عن الشائع عن دلالة الحرية في وعي سكّان شبه الجزيرة فنحن لا يمكن أن نفصل ذلك الشيوع عن طبيعة التفكير القبليّ لوعي الجماعة القائم على «تطرفيّة» الانتماء « «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» إما أن تكون معي كلا أو ضديّ كلا»، لاعتقاد هذا الوعي أن التعدد المذهبي يفسد صدق وحدة الانتماء ونقاء وحدة الولاء.
وهذا الأمر في قصوره غالبا ما يعود إلى هشاشة ثقافة المواطنة وغياب إبراز المشتركات والتركيز على تكثيف المُهمّشات.
وبذلك تصبح الحرية تحت مسمى التعدد الديني أو الفكري هي وفق الوعي القبليّ تهديدا لفكرة التوحيد والاندماج والولاء للهوية الواحدة .
والصفة الثانية التي تميّز المجتمعات العربية عن المجتمع السعودي فيما يتعلق بالطبع الديني وأفكاره ، هي أن تشكيل وعي الأفراد في المجتمعات العربية مقسمة بالتوازي بين الخطاب الديني والخطاب الثقافي والخطاب الإعلامي بفنونه المختلفة للمحافظة على مستوى معين من القيم الحضارية.
في حين أن الخطاب الديني في السعودية حتى الآن هو المتحكم في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع ، والمحتكِر لحصرية توجهاته وقيمه، وهما تحكم واحتكار أديا بدورهما إلى تهميش تأثير المنتج الثقافي والإعلامي في مقاسمة الخطاب الديني تشكيل الوعي الجمعي، كما أن أي محاولة لهذين الخطابين - الثقافي والإعلامي - من الاقتراب من تفكيك ذلك التحكم والاحتكار يتحول إلى «لعنة» عليهما، لأنهما يقتربا من مقدس، ولذا عليهما أن يظلا الوجه الآخر»لعملة التسلية» وتجاوزهما لهذا الدور يحكم عليهما بالطرد من الجنة.
ولا شك أن جميعنا يعلم أن ضرورة الاندماج المتوازن بين الخطابات الثلاثة الديني والثقافي والإعلامي له دورٌ في ترسيخ القيم الحضارية ؛ لأن الخطاب الديني بمفرده غير قادر على صناعة قيم حضارية؛ لأن آلياته تقترب من التجريدية أكثر من كونها تمثيليّة تعويضية.
والصفة الثالثة التي تميز المجتمعات العربية عن المجتمع السعودي على مستوى الطبع الديني وأفكاره هي حاصل الصفتين السابقتين وهي تنوع رفع سقف الحرية الفكرية في المجتمعات العربية، وهو أمر مفقود في المجتمع السعودي؛ لتدخل الخطاب الديني في معيّرة الرقابة وحركتها.
إن سلامة الحكم والاختيار لا يُمكن أن تتحققا في سقف الرأي الواحد والثقافة الواحدة مهما ارتفع ذلك السقف في ضوء الأحادية المفروضة وتحريم التنوع الفكري الحقيقي ، لأن معايير الحرية تختلف من فترة لأخرى وهذا ما يجعلها غير ثابتة في مدى يدفع لتوصيف يوحي بأمن مقبول لتقديرها.
ولأن هناك نصف كل شيء مجهول «وتعليم المجهول بيد قائد المعلوم» لا يُكمّل الناقص، لأن الارتياب سيظل رهين المحبسين!
ما أقصده أن الفاعل القائد للاختلاف لا يمكن أن يكون قاضيا يتسم بالعدالة في التعريف عن الآخر وقيمه ومعارفه ، والعكس بالعكس يّذكر؛ فلا يمكن للآخر الحقيقي أو الموهوم بعقدة الاضطهاد والمصادرة أن يقدّم توصيفا عقلانيا تطمئن إلية الموضوعية الحكيمة عن مخالفِ أو مختلِف، ولذلك فإن تعدد مصادر الحرية الفكرية هو الذي يمنح الطرفين بوعيهما الجمعي وذهنيتهما الشعبية حرية اختيار معرّف التوصيف والحكم دون تدخل وسيط أيديولوجي محسوب على مصلحة خاصة.
إن تنوع مصادر حرية الفكر المبني عليها موضوعية الاختيار والحكم هي أقصر طريق لسلامة ثقافة الاختلاف الديني والفكري وتقبل الآخر؛ لأن «الحقيقة ضالة العاقل» يجب أن يكتشفها بنفسه دون وسيط إيديولوجي
وبما أن الخطاب الديني هو المتحكم في تشكيل الوعي الجمعي في السعودية، فثنائية السنة والشيعة هي مسألة دينية بحتة باعتبار أن المؤسس لقاعدة البيانات الذهنية الشعبية السنية يتم من خلال الخطاب الديني، إضافة إلى أن العلاقة بين السنة والشيعة مختلفة في السعودية بخلاف لبنان والكويت والبحرين والعراق للأسباب السابقة، ولسبب مهم لا يُمكن أن نغفله يعود إلى «المنهج السلفي الذي تربى عليه الوعي الديني في السعودية، وما يحمله ذلك المنهج من تطرف نحو الشيعة باعتبارها مذهب فاسد خارج على مذهب أهل السنّة والجماعة».