ومن ظريف ما قرأناه في كتب الفتوى قول بعض العلماء بعدم قبول شهادة مربي الحمام لضعف المروءة، ومر الزمان فوجدنا آخرين يستحقون هذا الرفض أكثر من هؤلاء البسطاء الذين طوّحت بهم صروف الدهر إلى مهنة متواضعة يقتاتون منها ولو بعثرتهم على السطوح.
تذكرت ذلك وأنا أتابع قول بعض الناشرين إن كتباً حديثة متواضعة وصلت تجاوزت الطبعة السابعة والأربعين في غضون سنوات قليلة، ولم تكن موضوعاتها عميقة أو فكرية جادة أو تقترب من الهموم الراهنة أو تعليمية مرجعية على أقل تقدير، بل هي كتيبات عابرة لكتّاب ناشئين غير جماهيريين، ولم نعرف كتب أشهر الكتاب العرب ودور النشر الشهيرة منذ عشرات السنين وصول طبعات كهذه.
وهذه حيلة لا تليق بمن يعمل في مجال المعرفة وصناعاتها، وإن صح الخبر فالأفضل أن يصدر عن جهات محايدة لا عن الناشرين أنفسهم، لكنهم فيما يبدو تورطوا في سوق الكتاب، ولم يستطيعوا التعايش مع الأزمات التاريخية في هذا المجال المحفوف بالعنت والخسائر، وضعف الجمهور، وتطلب مراحل الإنتاج متخصصين بارعين يراعون آداب المهنة وأصولها فتحوّل الكتاب بين أيديهم إلى منتج تجاري صرف لا عيب في تسويقه وتعزيز حضوره التجاري مهما كلف الثمن.
ربما كان الوضع الثقافي العربي مدعاة لهؤلاء ليضيفوا لبنات جديدة إلى حالة الضعف العام وتراجع قيم المعرفة وتدني مستوى القراءة.. وهل سيفعل ناشرون محكومون بأخلاقيات السوق شيئاً غير ذلك فقد مضى زمن الناشر المثقف الحاذق الصادق الذي يراعي أدبيات المهنة، وقد عرف التاريخ كثيراً منهم قبل نشوء جمعيات الناشرين واتحاداتهم التي عجزت عن رعاية هذا الترهل المضحك.
وتذكر كتب التاريخ رسالة ظريفة للجاحظ في مديح الوراقين، ورسالة أخرى في ذمهم، ويبدو الأمر عريقاً في تراثنا العربي رغم فقد الرسالتين، لكن الناشرين الجدد ربما التزموا شيئاً مما تشير إليه الرسالة الثانية ونقحوها وزادوا عليها.
ومن يعمل في مجال النشر والطباعة والتوزيع أو يزور معارض الكتب وأسواقها، أو يراجع إحصاءات الجهات البحثية في العالم العربي يعرف جيداً تراجع سوق الكتاب وضعف مستوى القراءة بشكل عام، ولن يصدق إعلاناً مخادعاً يتصل بقوائم الكتب الأكثر مبيعاً، أو الأوسع انتشاراً.
أتذكر هنا تجارب فريدة في السوق السعودية لناشرين أكفاء قدّموا الإصدارات المهمة للرواد ولم تتجاوز الكميات المطبوعة ثلاثة آلاف نسخة ذهب جزء كبير منها إلى المخازن وبيع بعضها بالمزاد في مشهد مؤسف حقاً، وأغلقت الدور الجادة أبوابها، وفرضت الدور الجديدة على المؤلفين دفع قيمة نشر كتبهم مقدماً، وتلاعب آخرون بإدخال بعض الكتب في قوائم الممنوع لتحظى بشيء من الترويج، ولم نجد مؤلِّفاً واحداً يمتدح سوق الكتاب لأنه وجد فيه ما يسد رمقه ويقيه غوائل الحياة اليومية، فكيف جاد الزمان بسحائبه على هؤلاء الناشرين الأفذاذ في الخريف؟!
أظنها حالة من الغش التجاري والتلاعب التسويقي على حساب الجودة واحترام عقل القارئ في زمن تتحكم فيه أخلاقيات واجهات العرض وقوائم الربح والخسارة والتسليع دون إشارة إلى كميات كل طبعة وغياب التنظيمات المهنية التي تقنن أعمال الناشرين وتراقبهم، وتفاقم الوضع مع المنتج الإلكتروني، حيث تصبح عمليات ضبط الكميات صعبة جداً وإعلاناتها أكثر خداعاً فغدونا أمام فئة جديدة قد لا تقبل شهادتها، إن صح التعبير.