لا مرية في صعوبة تحديد المراد بدقة من هذا المصطلح... كما لا مرية في أن هذا المصطلح قد صار مصطلحا عالميا يتم تداوله في سياقات كثيرة ونعتقد أن انتقال هذا المصطلح إلى الثقافة العربية تم عن عدة طرق أولها هي الطريق الماركسية التي وجدت مواطئ قدم تنظيمية في عدة بلدان عربية في منتصف القرن العشرين، ولكنه بقي محدوداً في دوائر تلك التنظيمات أما الطريق الثانية فقد كانت من خلال الكتابات النقدية والفلسفية التي ناقشت هذا المصطلح واستخدمته في مقارباتها وقد حظي المصطلح بقدر من الانتشار من خلال هذه الكتابات، والطريق الثالثة كان من خلال استعمال يقرب من استعمال نابليون بونابرت حيث تقوم الدول في بعض البلدان العربية بإطلاقه من خلال الثقافة الموجهة على بعض معارضي أنظمتها وخصوصاً تيارات الإسلام السياسي قصد التنفير، وصار من ثم مصطلحاً يقرب من مصطلح الدغمائية أو التعصب لفئة ما أو لفكر ما تعصباً غير سوي.
ولو نظرنا إلى استعمالات المثقفين للإيديولوجيا لرأينا أن الإيديولوجيا تعني الآن في الاستعمال اللغوي الثقافي والاجتماعي، الفكر الحركي أو ما يسمى بالرديكالي، وأصبح المعنى يتطور ليدل على الفرد المنظم لجماعة أو لحزب سوءا كان حركياً أم لم يكن، كما تطور المعنى ليدل أيضاً على المتعصب للمذهب الديني تعصبا إقصائياً سواء كان حركياً أم غير حركي، وتطور كذلك ليشير إلى حامل الفكرة أو المذهب الداعي لها تفريقاً بينه وبين المسلم العادي أو المسلم الرسمي،كما يعني أيضاً الإنسان الموجه فكرياً أو المصنوعة له فكرة يحيا بها دون أن يدري بمن يقوم بتوجيهه أو يتحقق من الفكرة ومن قام بصنعها، ولعله يحمل في دلالاته كل من يقوم بعمل لا يرضى عنه الإسلام الرسمي في الدولة وبهذا تكون لكلمة (إيديولوجيا أو مؤدلج) حمولة سلبية في المجتمع وفي الثقافة في المملكة السعودية، هذه الدلالات التي تحتملها الإيديولوجيا في الثقافة المحلية وفي المجتمع الآن. وينبغي التعامل مع مفهوم الإيديولوجيا وفقاً لهذا المفهوم الاستعمالي أو الإشارة إليه عند مناقشة الإيديولوجيا بمفاهيمها الأخرى، ولكن الأيديولوجيا العامة والإيديولوجيا المجسدة ترتبط كثيرا بالسلطة بكل تجليتها، كما أنها تفرز هي سلطتها بعد ذلك، كما ترتبط باستراتيجيات صناعة المعنى وصناعة القيم وصناعة المستقبل الفكري المعدة مسبقاً وهنا ينبغي التنبه إلى مصانع الإيديولوجيا الخفية التي غالباً ما تقوم في العالم المتأخر، إذ تقوم تلك المصانع الخفية بصناعة معدة مسبقاً لأفكار المجتمعات المتأخرة وتوجيه تلك المجتمعات حسب الصناعة الإيديولوجية لتحقيق مكاسب سلطوية هذا التصنيع المتعمد والمسبق للإيديولوجيا يؤدي إلى وضع غير طبيعي لنمو الأفكار في تلك المجتمعات ؛ مما يؤدي في النهاية إلى استمرار التأخر واستمرار موجات العنف الإيديولوجي والدغمائية الحادة في نفي الآخر.
وإجمالا فإن مفهوم الإيديولوجيا يظل مصطلحاً استهجانياً في الثقافة العربية في الغالب يطلقه الخصوم على بعضهم للتحقير ولإيضاح عدم قدرتهم على التفكير السوي بسبب من استلابهم لمنظومة فكرية ما. وإذا رمنا الإيغال في مسألة الإيديولوجيا فإنها تنقسم قسمين كبيرين:
الأول: هي الإيديولوجيا الظاهرة السوسولوجية الاجتماعية الخاصة بالإنسان وحده ونستطيع أن نطلق عليه بها تعريفاً جديداً هو (الإنسان كائن إيديولوجاتي) أي يعيش بعدة إيديولوجيات أو بعدة أنظمة وأنساق فكرية، ويعني ذلك أن الإنسان مخلوق لا يعيش إلا بأفكار يحولها إلى واقع مجسد ينظم بها حياته في التعامل مع الذات والآخر وحتى الحداثة نفسها ليست إلا « سيرورة إيديولوجية « بحسب بودريار، أي أن الإيديولوجيا هي قدر الإنسان أو قيده. والإيديولوجيا هي بطبيعة تكّونها تكون دغمائية تنفي الآخر، ولكن علاقتها بالدغمائية علاقة معقدة جداً إذ هي قد لا تعيش ولا تزدهر بغير الدغمائية من جانب، وهي تقتل بالدغمائية الإيديولوجيات المنافسة هذا من جانب آخر، وهي قد تتخلص من دغمائيتها لتكون إيديولوجيا متعايشة مع إيديولوجيات أخرى أو إيديولوجيا كامنة أو إيديولوجيا خاضعة.
وهنا ينبغي أن يكون واضحاً أن الإيديولوجيا هي منظومة أفكار رئيسة ولا يملك الإنسان بصفته السوسولوجية إلا العيش في إطار إيديولوجي بشكل اغترابي أو بشكل استلابي أو بشكل توافقي والغالب أن الإنسان لا يشعر بوضعه الإيديولوجي ويعيه إلا في فترة متأخرة بعد أن يكون قد تم تشكيله الإيديولوجي من خلال التربية غير المحائدة التي تستمر من مراحل التعليم الأولى حتى نهاية التعليم الجامعي وتستمر في الوقت نفسه من خلال المؤسسات الاجتماعية كالمساجد والكنائس والمعابد التي تتولى تغذية الشق الميتافزيقي للإيديولوجي وهو الشق الذي يضفى تماسكا وطمأنينة على اكتمال الإيديولوجيا وعدم تناقضها، ويشارك في تجسيد الإيديولوجيا كل التنظيمات الاجتماعية الأخرى وكل الخطابات التي تلتهما الإيديولوجيا حتى الخطابات المعارضة بحيث تكون خطابات محاورة في بعض الإيديولوجيات وخطابات خاملة منزوعة القيمة في إيديولوجيات أخرى. وفي هذه الحالة تتضح قيمة الإنسان وقيمة الإيديولوجيا بمقدار التماسك الإيديولوجي، وبمقدار ما تقدمه الإيديولوجيا للإنسان من قيم تقبل للإيديولوجيات الأخرى (القيم الحوارية)، وبمقدار ما تقدمه من نمو علمي ومعرفي وتقني وإبداعي تتفوق به على بقية الإيديولوجيات وتخضعها بطريقة غير دغمائية أو بعيدا عن الصراع والإقصاء.
ولأن من طبيعة الإيديولوجيا التوالد المستمر تظهر إيديولوجيات جديدة دائماً سواء لدعم الإيديولوجيا القائمة أم لمعارضتها أم للاهتمام بنسق خاص منها. وبعض تلك الإيديولوجيات يصنع صناعة في مصانع الإيديولوجيات ومصانع الإيديولوجيات قديمة وهي تقوم على استغلال فكرة العصبية الدينية والعنصرية التي أشار إليها ابن خلدون كمكون للدول والسياسية قديماً، كما تقوم على استغلال الجماعات الدينية في الحروب الإقليمية وفي الحرب الباردة وفي الدول المتخلفة حديثاً لضمان مكتسبات سياسية أو بقاء التخلف أطول فترة ممكنة وكعامل تماسك للدول المتخلفة أيضا، لأجل ذلك فإن الإيديولوجيا المصنوعة أو الاهتمام بالتصنيع الإيديولوجي هو سمة للعالم المتخلف لا المتحضر. وهنا ننتقل إلى ارتباط الإيديولوجيا بالسياسة فلا سياسية بغير إيديولوجيا سواء كانت أيديولوجيا تعايشية وهي ما توصل إليها العالم الغربي أو إيديولوجيا إقصائية أو إيدلوجيا مستغلة أو إيدلوجيا مصنوعة وهذه الأشكال الثلاثة هي التي يعيش بها بقية العالم المتخلف.
أما القسم الثاني: فهو الإيديولوجيا كعلم يدرس الأفكار وتكونها ونسقها ونظامها وتأثيرتها، وليس هنالك علم خاص بالإيديولوجيا، ولكنها تدرس في عدة مجالات معرفية هي: السوسيولجيا، والفلسفة، والنقد الثقافي، وتحليل الخطاب، وتحليل الخطاب النقدي.
بقي لنا أن نشير مجرد إشارة عجلى إلى الممارسة الإيديولوجية في التراث الإسلامي بمعنى أنها ظاهرة إنسانية حتمية أو إيديولوجيات متوالدة توالداً حتميا أو إيديولوجيات مستغلة أو مصنوعة
أم كانت الإيديولوجيا التي تعنى بدراسة الأفكار أين وجدت ومن اهتم بها؟
يمكن أن نطلق على الإيديولوجيا كممارسة في التراث الإسلامي مصطلح «العصبية» أو «التعصب» وقد كان مبعث العصبية سياسياً في بداية الأمر تعلق بكيفية تشكل الخلافة بعد وفاة الرسول (ص)، وانتهى في ظل سياق تشكل القوى والخطاب الجديد إلى تولي القرشيين السيادة السياسية ثم جرى الاختلاف بعد ذلك في علاقة الخلافة بالدين واستمرت الإيديولوجيا الكامنة والقاتلة تنخر في جسد الحضارة والتراث الإسلامي وانتقلت من ثم إلى المنظومة المعرفية كالفقه والحديث وغير ذلك من العلوم ومن الأنظمة والأنساق الاجتماعية وإلى استغلال الأدلوجة من خلال تركيبها تركيباً دينيا للوصول إلى السلطة، وكما بدأت الإيديولوجيا كعصبية في مجال السياسية وتشكل خلالها أنساق الخضوع المطلق للحكام ولصانعي العصبية ولمستغليها.
انتهت في آخر تشكيلاتها إلى النقاء الأيديولوجي مرة أخرى بردّها إلى الجانب السياسي وتقديس السلطة، ولا يزال العالم المسمى بالعالم الإسلامي غارقاً في الإيديولوجيات التي أنهكت جسده واختطفت تأريخه وحاضره ومستقبله ولا يبدو أن لوائح الضوء قريبة وإذا كان سارتر قد قال يوما: إن الآخر هو الجحيم فلعمري إن الإيديولوجيا هي جحيم الإنسانية الأكبر، ومبيدها، والقاضي على التسامي الإلهي الذي نفخ فيها وعائقها أن تكون هي هي.