منذ أن تشكل النقد الثقافي في العالم العربي بدءًا من العام 2000م مع اهتمام مجلة فصول به وإتاحة أحد أعدادها له وحتى هذه الحقبة وهو يلاقي رفضًا وقبولًا من قِبَلِ نقاد النقد الأدبي حتى وإن كانوا يؤمنون بنظريات النقد المعاصر، فخصوم النقد الثقافي ينبعون من منبع النقد الأدبي بشقيه القديم والمعاصر/الحداثي، ولعل كثيرًا ممن رفض النقد الثقافي عند الغذامي -مثلًا- إنما تم رفضهم لسببين:
الأول: لتصريحه بموت النقد الأدبي، واستبداله بالنقد الثقافي، فصار رفضهم لكونه بديلًا أكثر من كونه منهجًا نقديًا لا أدبيًا.
والثاني: لاقتصاره على القبحي بديلًا عن الجمالي، وإماتته للبلاغة العربية التي تنطوي على الجمال ولا شيء غير الجمال. بينما ينبع رفض سعيد علوش للنقد الثقافي من مقدمتين:
الأولى: تماهيه مع الحداثة ومدافعته عنها والخوف عليها من (الحداثة السلفية)؛ لذا فإنه يضم (آلان تورين) ناقد الحداثة مع نقاد النقد الثقافي باعتبارهم منهجا واحدا ضد الحداثة.
والمقدمة الثانية تكمن في مدافعته عن الأدب المركز/ المعتمد مقابل الفن الهامشي؛ لأنه يؤمن بأن النقد الثقافي يستهدف الأدب المهمش لا الأدب النخبوي؛ لأن المهمش يعتمد على الثقافة الجماهيرية والشعبية بالضد من الأدب النخبوي الذي يهتم بالبرجوازية.
ومن هذا المنطلق فإنه يعتبر النقد الثقافي «هو الحمار القصير الذي نقفز على ظهره بسهولة؛ فإن هذا الحيوان يصبح جوادًا لإبراز فحولة هذا الحيوان الصبور... وقد وجد الناقد الثقافي في نقده طريقة سهلة للتعالي والتسامي على القضايا الجوهرية في الإبداع والفكر... الذي يلغي كل محاولات المبدع/ المفكر/ المؤرخ بجرة قلم رصاص النقمة» (نقد ثقافي أم حداثة سلفية ص164-165).
ولقد استثمر علوش فكرة الهامشية في النقد الثقافي للكيل دون تمحيص على الغذامي وغيره باتهامهم بالحداثة السلفية التي يريد بها إرضاء سلفية مؤسسته بعدما رفض مؤسسة الأدب، وربطه هنا بين رابطة الأدب الإسلامي وبين النقد الثقافي في تنظير الغذامي هو ربط غير منهجي؛ ولم يذكر له علوش أية وجهة علمية أو نقدية إنه مجرد إشباع لرغبته في تهميش الخليج الذي يعتبره هامشيًا بين العالم العربي حتى إنه يلمز بنشأته ونشأة الأدب الإسلامي في بلاد الحرمين، وكأن انبعاث النقد الثقافي في المشرق العربي أكسبه هامشيةً بمنظور إقليمي فحسب، فهو لا يفتأ يذكّر بمؤتمر النقد الثقافي الذي عُقد في مصر للعام 2000م كانطلاقه للنقد الثقافي، ويندد بهاته الانطلاقة التي لم تنبعث إلا بعد مرور أربعة عقود من نشأته في بريطانيا وأمريكا منذ الستينيات، وكأن المناهج النقدية كلها انتقلت إلى العالم العربي في زمان نشأتها في الغرب؟! ألم يعلم أن البنيوية لم يتلقاها الغرب حتى ظهرت تفكيكيتها في السبعينيات؟!
إنني أربأ بالناقد علوش الذي يعي الأدب والنقد المقارن المؤسَس على علاقات تثاقفية أن يلجَ منطقة الإقليمية في النقد، حتى وإنْ لم يعلم أن النقد الثقافي أضحى مواكبًا للنقد المغاربي كما عند محمد بو عزة وإدريس الخضراوي ويحيى بن الوليد وعبدالرزاق مصباحي وغيرهم، فالاتهام بالهامشية يجعله بمنأى عن مركزية الغرب؛ إلا إنْ وضع ذاته في خانة غير الخانة العربية.
وقد نستطيع أن نعتبر النقد المغربي هامشيًا بالنسبة للنقد الفرنسي والفرانكفوني الذي يدور حوله؛ حتى تساءل محمد بو عزة عن «متى نتخلص من «الجزيرة الفرنسية المغلقة» وننفتح على مرجعيات أخرى؟ «(الملحق الثقافي بصحيفة المساء العدد: 2502 - 15/10/2014)، لكننا هنا سنكون في بوتقة واحدة (العرب ضد الغرب). ولكن علوش يريد لنا حداثة مغربية تكون وسيطًا بين سلفية المشرقي وما بعد حداثية الغربي- آلان تورين!
وإنني أوافق علوش في انتقائية الغذامي غير المنهجية حتى إنه وقع في تناقض حينما جعل الجاحظ يروّج للثقافة الذكورية في كتابه (ثقافة الوهم ص60) وأما في كتابه (النقد الثقافي) فإنه يحلل العصا عند الجاحظ كتكسير للفحولة التي كانت تُمارس في الثقافة العربية، لكني لا أفقه التعميم الذي انزاح إليه علوش في نقد الغذامي حتى جعل مشروعه (شبه نقد ثقافي) وذلك لاعتبار مناطقي إقليمي فحسب، ومن منطلق دفاعي عن الحداثة المتمركزة في الأدب النخبوي؛ لذا فإنه لم يناقش فكرة الفحولة إلا بافتئات على النقد الثقافي الذي يريد أن يجعل «من المتخيل الإبداعي فحولة نسقية» (ص100)، وعليه فإنه يرى أن الغذامي لم يجد في شعر الحداثة (الرجعية) إلا تغييرًا للمجاز لا الحقيقة، باعتبار الحداثة حقيقة لا مجازًا.
وحتى الهامشية التي يتهم بها النقد الثقافي فإنها غير ممنطقة، وذلك حينما نعلم أن الغذامي -مثلًا- لم يتعامل في نقده الثقافي في كتابه إلا مع ما هو نخبوي لا هامشي، فهل يُعتبر الشعراءُ (المتنبي وأبو تمام ونزار وأدونيس) هامشيون؟!بل هل يعتبر روايته (تاسانو.. ابن الشمس ملعون القارات) -التي يعتبرها مناسبة للنقد الثقافي- هامشية؟! (ذكر هذا ضمن حواره في برنامج (مشارف) على القناة المغربية).
إن نقد علوش للنقد الثقافي والغذامي خصوصًا هو نقد شاعري مجازي يعتمد على اللفظ أكثر منه على الفكرة، تجد هذا في كثير من فقراته التي اعتمد فيها على الشاعرية لا على لبّ الفكرة كقوله: «وبذلك يتحول النقد الثقافي إلى مخلوق مشوّه بوجوه مقرفة مقتلعة الجذور وتعاني من حداداتها منزوعة الجمالية والحياة»
(ص126)، إنه يغرقنا في سيل من الشاعرية كتلخيص يعتمد على السخرية لإحدى الفقرات المنقولة عن كتاب الغذامي، ولا أظن أن هذا يكفي لإشباع نقد منهج حديث يتماس مع النص الأدبي!
يتعامل علوش مع الدراسات الثقافية عند الغرب بفارق كبير عن تعامله معها عند العرب، فهي في منشئها بريطانيا تعتمد على الموجّه السياسي لإظهار القومي الراقي في الأدب بينما في أمريكا فهي هروب نحو الثقافة الشعبية والجماهيرية، ففي بريطانيا كان هناك احتفاءٌ كبيرٌ بأعمال شكسبير ضمن الدراسات الثقافية حتى إنها أضحت سببًا في نشر أعماله بشكل أوسع، وكأنه يعتبر الدراسات الثقافية في بريطانيا جمالية لا قبحية كما هي في أمريكا؛ لذا فإنه حينما يتلمس تاريخ الدراسات الثقافية وواقعها في بريطانيا فإنه يميل إلى تزكيتها حتى إنه نقل في ملحق الكتاب فصلٌ ذكر فيه مؤلفه أن الدراسات الثقافية «يمكنها أن تقوي دراسة الأدب بوصفه ظاهرة تناصيّة معقدة» (ص252)، بينما في محيطه العربي أو المشرق العربي فإنه يعتبره استبدالًا للمركزية الغربية بالمركزية التراثية، ويعتبره ضدًا للخيال الإبداعي، ولعله يحصر رفضه للنقد الثقافي في محيطه العربي بالبحث عن القبحي لا الجمالي؛ لذا فإنه اعتبر إبراهيم غلّوم ونادر كاظم ممن اهتموا بالقبحي في النقد الثقافي بالحداثة السلفية بينما لم يتطرق لمناصري الجمالي فيه كعبدالقادر الرباعي ويوسف عليمات. وها هو يرفض النقد الثقافي القبحي ويمارسه مع الفولكلور الشعبي المغربي (الكناوي) بتحليله ثقافيًا في صفحتين؛ مع وجود لبس في التوثيق بين كونه ناقلًا وملخصًا أو محللًا هو بذاته (ص198-199).
ويرحب علوش بالنقد الثقافي الذي لا يمس الحداثة ولا يبيّن عوارها وسوءاتها، وويلٌ له من (الحداثة السلفية) حينما يرفض فحولتها وعنفوانها.
فهل هذا انتصارٌ للنقد الأدبي أم ترميم للحداثة؟!، وكأن الحداثة ذاتها تحولت إلى فحل يرفض منهجًا بأكمله لأنه بيّن قبحياته وزلاته النسقية.
ولْيعلم القارئ الكريم أن هذا المقال ليس انتصارً للإقليم الخليجي كم أنه ليس انتصارً للغذامي، وإنْ كان سيُحمل على الانتصار فهو انتصارٌ للنقد الثقافي فحسب.