الحديث عنها له فروع دقيقة، وأقسام مختلفة، لكل قسمٍ حكمٌ خاصٌّ به.
ولستُ أريد هنا إلا الحديث عن الرطانة بين عامة الناس في بلاد العرب وأصلهم، وأما التفاصيل والأقسام ففي المصادر المذيّلة في نهاية المقال، خصوصاً في كتاب الحيّاني فقد جمع شوارد الموضوع.
لقد نبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة، هِجَّيْراها وديدنها: التشبه بالكفار في كثير من الأمور، مع الاستخذاء والاستعباد لهم؛ مصداقاً للحديث الثابت: «لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».
وتتمثل هذه التبعية الماسخة، في جوانب شتى، يطول تعدادها، والمعنيُّ هنا: الرّطانة، وهي: الكلام بالأعجمية. ( ) والقصدُ حينما تكون بين العرب، وليس ثَمَّ ضرورة أو حاجة.
لقد كان حقاً على المسلمين - مهما كانت أصولهم وأجناسهم - أن يبوؤا لغةَ القرآن مبوأَ صدق؛ (لأن تفهمها من الديانة) ( )، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، (وشعار الإسلام وأهله) ( )، فهي خير اللغات والألسنة ( )، (و أوسعها مذهباً وأكثرها ألفاظاً) ( ).
إن المتحدث بلغة الأعاجم - من غير حاجة - يُظهر من نفسه - أحياناً - الفخر والعجب، حتى إنه ليورد في ثنايا حديثه كلمات يتراطن بها ليُظهر معرفته وتميزه، مع قرب وسهولة اللفظة العربية.
وقد شاع عند عامة الناس في بلاد العرب كلمات كثيرة من الرطانة، زاحمت الكلمات العربية، - سواء علم المستخدم أعجميتها أم لا - وهي سلسلة طويل ذرعها، من ينتبه لها في أحاديث الناس يشعر بخوف شديد من شيوعها ومغزى ذلك، وإقصاء العربية وإذلالها، فأيُّ معنى أن يتصل العربي في بلاد كلها عرب على عربي مثله في فندق أو شركة، فيرد عليه العربي بكلام أعجمي، يالله العجب!.. كم نسبة الأعاجم في بلاد العرب؟!.. وليس رسوم الفنادق والشركات مبررة لأن تكون الأجنبية هي الأصل في بلاد العرب!!
إذا ذهبت للبلاد الأعجمية القوية أو الضعيفة، هل يرد عليك استقبال الفندق باللغة العربية؟!
فلماذا نقبل الذلة والمهانة لأنفسنا، ولديننا، ولغة العرب من الدين.
من الكلمات الدارجة :/أوكي= تأكيد/ تليفون= هاتف/موبايل = محمول/ برنت= قائمة/ بوردنق باص= بطاقة صعود الطائرة/ كمبيوتر( ) = حاسوب/لابتوب = حاسوب محمول/سيدي = قرص للكتابة/ باجورة = ظلة المصباح( )/برواز= إطار...
حرف تي، دايركت، يوتيرن، ريسبشن، ديسكاون، أف، أون، هاوس، هوم، مول، سنتر، سوبرماركت، إيميل، رتويت، منشن، هاشتاق، بايو... إلخ.
فضلاً عن اعتماد التأريخ الأجنبي، وهجر التاريخ الإسلامي الهجري - دون حاجة -.
هذا نموذج من الكلمات الدارجة بيننا، والذي يظن كثير من أبنائنا أنها من لغة القرآن؛ لشيوعها حتى بين المشايخ والدكاترة والقدوات - للأسف الشديد -، وهي كلمات يمكن أن يستعاض عنها بالسهل من العربية؛ أما الكلمات الدارجة لأسماء شركات أجنبية، فإنها تنقل كما سُمِّيت لكن بلهجة عربية: جمس، تويوتا، مرسيدس، آيفون، سامسونج، تويتر، فيسبوك.... ولا إشكال في استخدام مثل هذه، وهذا أمرٌ بدَهَيٌّ لكنه يلتبس على بعض الناس، فحسُن التنبيه إليه.
وإن كنت أتمنى أن تُلزم وزارة التجارة الوكلاء بوضع اسم عربي لمنشأتهم قبل اسم الشـركة الأجنبية، لتلوك الألسن المفردة العربية، خصوصاً مع كثرة المحلات الأجنبية في طرقاتنا، وقد أعجبني حفظ الناس وتردادهم للفندق في مكة: (فندق دار التوحيد) دون الحاجة لإكماله ب: انتر...
وإني أرى ازدياد الأمر شيوعاً مع التقنية الحديثة، فزاد خطورة، خصوصاً مع وجود التقنية بين يدي من لم يقم لسانه بالحديث العامي فيمن هم دون مراحل الدراسة، تطرق مسامعهم الأعجمية أكثر من العربية في ظل (الآيباد) وما شابهه.
هذا، وقد عُدَّت الرطانة من نقصان المروءة ( )؛ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: « ما تكلم الرجل بالفارسية إلا خَبَّ - أي: صار خداعاً -، ولا خَبَّ إلا نقصت مروءتُه».( )
وقال الأصمعي: (ثلاثة تحكم لهم بالمروءة حتى يُعرفوا: رجل رأيته راكباً، أو سمعته يُعرب، أو شممت منه رائحة طيبة؛ وثلاثة تحكم عليهم بالدناءة حتى يعرفوا: رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل، أو سمعته يتكلم في مصر عربياً بالفارسية، أو رأيته على ظهر الطريق ينازع القدر). ( )
وإليك شذارتٌ مُذْهِبة، وثمرات يانعة، من يراع الإمام الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني - رحمه الله - (ت728هـ) في عرض وتحرير بياني، عن الرطانة وحكمها واستعمالها، ساقه في كتابه الفريد - الذي لم يسبق إليه -: «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم» ( 1/461 ـ 470) أورد كلام الإمام أحمد - رحمه الله - في أسماء الشهور بالفارسية، ثم قال: (فما قاله الإمام أحمد من كراهية هذه الأسماء، له وجهان:
أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرماً، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه...
الثاني: كراهيته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية؛ فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعار الأمم التي بها يتميزون...).
وقال - رحمه الله -: (وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور، كالتواريخ ونحو ذلك فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بَيِّن في كراهيته أيضاً؛ فإنه يكره: آذرماه ( )، ونحوه، ومعناه ليس محرماً...).
وقال أيضاً: (فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يُسمى بغيرها، وأن يتكلم بها، خالطاً لها بالأعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة، مأثور عن الصحابة والتابعين...).
وقال: (ونَقَل عن طائفة منهم أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية.... وفي الجملة، فالكلمة بعد الكلمة من العجمية، أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك، إما لكون المخاطب أعجمياً، أو قد اعتاد العجمية؛ يريدون تقريب الأفهام عليه ( )، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص - وكانت صغيرة وقد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها - فكساها النبي صلى الله عليه وسلم خميصة، وقال: « يا أم خالد! هذا سنَا»( ) والسنَا بلغة الحبشة: الحسن.
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال لمن أوجعه بطنه: (أشكم بدرد)، وبعضهم يرويه مرفوعاً، ولا يصح.
وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادةً للمصر وأهله، أو لأهل الدار للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه، كما تقدم، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر - ولغة أهلها رومية -، وأرض العراق - ولغة أهلها فارسية -، وأهل المغرب - ولغة أهلها بربرية - عوَّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار، مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديماً، ثم إنهم تساهموا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم؛ وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقَّنُها الصغارُ في المكاتب، وفي الدُّور؛ فيظهر شِعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام، في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى، فإنه يصعب ( ).
واعلم أن اعتياد اللغة، يؤثر في العقل والخلق والدين، تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة، من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
ثم أورد ابن تيمية قولَ عمر في كتابه إلى أبي موسى - رضي الله عنهما -: «تفقهوا في السُّنَّة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي».. وفي حديث آخر له: تعلموا العربية فإنها من دينكم.
وهذا الذي أمر به عمر - رضي الله عنه - من فقه العربية، وفقه الشـريعة، يجمع ما يُحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله).
وذكر ابن تيمية - رحمه الله - من مفاسد التَشبُّه (1/80): (أن المشاركة في الهدي الظاهر؛ تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين؛ يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس.
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر؛ حتى يرتفع التميز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين).
وقال أيضاً (1/488): (إن المشابهة في الظاهر، تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة) ا.هـ المراد نقله من كلام شيخ الإسلام.
وأثني بالتأكيد على أن الحديث هنا محصور في مسألة استعمال العرب المسلمين فيما بينهم كلمات أجنبية لا حاجة لها، ويمكن أن يستعاض عنها بكلمات عربية، كما سبق التمثيل لذلك.
وإذا احتاج العربي لكلمة أجنبية لا نظير لها في العربية، وأراد نطقها بين العرب، فلينطقها بموازين العرب ولهجاتهم، ولا يتكلف ويتقعر نبرة الأعاجم ونطقهم بها؛ لذلك قالوا: (أعجميٌّ فالْعَبْ به).. وهذه المقولة الجميلة، عنوان المقال القادم - إن شاء الله -.
** ** **
* موضوع الرطانة، يُنظر: بحثٌ جيِّد لعبد الرحمن آل عثمان، في «مجلة البيان» عدد (152)، ربيع الآخر (1421هـ) ( ص8 - 15)، وكتاب « الرطانة وحكم تعلمها» لخالد الحيَّان، وكتاب «التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي» د.جميل اللويحق (ص525- 530).
* لفضل العربية وذم اللحن، انظر: « تنبيه الألباب على فضائل الإعراب» للشنتريني، و«الأحاديث والآثار الواردة في فضل اللغة العربية وذم اللحن، رواية ودراية» د. أحمد الباتلي - وهو أوسع كتاب في موضوعه -.
* وفي التشبه عموماً، يرجع إلى كتاب: « اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية، «الإيضاح والتبيين»، لحمود التويجري، «السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار» لسهيل الغفار، «حكم الجاهلية» لأحمد شاكر (ص238)، «من تشبه بقوم فهو منهم» أ. د. ناصر العقل، «وحي القلم» للرافعي (2/296).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.