سلطة الراوي على النص ناعمة وذات أثر معنوي
غالباً ما يتلمس القاص أحمد العليو في تجربته السردية مواطن الألم الإنساني، ويفتش بعين ثاقبة وروح مثابرة عن أدق وصف للحياة التي يعيشها هؤلاء الشخوص الذين يتزاحمون في أعماله القصصية ولاسيما هذا العمل الجديد الذي وسمه بعنوان «معترك الذكريات» ليجعل من هذا المشروع السردي بنية وعي يستطيع القارئ من خلالها تصور الواقع برؤية معنوية متكاملة.
قصص هذه المجموعة تسير نحو نسيج واحد يتمثل في سلطة الراوي المطلقة على النص، إلا أن هذه السلطة تكون في الغالب ناعمة وذات أثر معنوي، تستجمع فيه الأحداث صورها وتأثيراتها، لتكوّن هذه العوالم العديد من الصور المعبرة عن حالة وجدانية يعيشها الراوي البطل.. فالقصة الأولى «العقيم» في هذه المجموعة تندمج فيها صورة الإنسان - ممثلاً بشخصية الراوي البطل - بالطائر المرتسم بصورة الديك المتغطرس فقط على دجاجاته، ليبني الكاتب من هذه المفارقة الطريفة تفاصيل النص حول هذه المقاربة بين حياة الإنسان وما سواه من مخلوقات، فلا يجد أنسب من هذا المشهد ليسقط قصته على عالمنا المليء بالتناقضات والمشاكسات والهموم المنوعة.
تتبع هذه القصة قصص أخرى على نفس المنوال إلا أنها تقترب من حالة الإنسان أكثر فأكثر، لتدقق في مظاهر متعددة من صور العناء اليومي، ولينهل الراوي من معين حكاية ابن الأرض والمزارع والنخيل راسما ملامح الإنسان «الاحسائي» الكادح في لب هذه القصص أوالحكايات..فجاءت قصة «انتهاك» في المجموعة مسجلة بعمق وعفوية واقع الحياة في هذه البيئة المليئة بالكفاح والتعب.
فالاتكاء على الذاكرة هو عنوان عريض اختطه الكاتب لمجموعته حينما مهرها بعنوان «معترك الذكريات» بغية أن يجعل الراوي البطل متكئا على هذه الهالة الوجدانية العميقة والمؤثرة في ذات الإنسان ومشاعره، متيقنا أن الكاتب سينضج هذه التجربة، بل ويتميز فيها حتى تكون علامة فارقة في تجربته القصصية، لتصبح تجربة العليو متناغمة مع هذه البيئة ومدونة لأدق تفاصيلها، بل لا يجد القارئ صعوبة في كشف مرامي وأهداف كل نص في هذه المجموعة.
لغة السرد في هذه القصص تأخذ بعدين أو شكلين، فالأول لغة سردية تسجل الموقف وتهتم بتفاصيل الحكاية وتدونها بلغة سردية متوازنة وغير متكلفة، فيما تغيب عن فعاليات هذه النصوص مضامين اللغة الأخرى، حيث تتشكل اللغة السردية بعيدا عن أي تأثير لشعرية النص أو شاعريته، لتكون اللغة منصبة على بناء مشهد الحكاية، وقوة السرد وحضور فكرة الراوي فلا مجال - حسب رؤية الكاتب - للتنميق أو شذرات الشعر أو مواقف الشاعرية، فهو مهموم - كشخوص عمله - بكتابة النص القصصي وحسب، وهذا ما يؤكد أن العليو وضع لقصصه ضوابط سردية صارمة، كما انه غير معني بالتفاصيل الأخرى في بناء النصوص مما يجعل القصة لديه متكاملة الأرجاء وواضحة المعالم، ومحققة لشرطية بناء القصة، واكتمال معمارها في الذهن والذائقة.
شخوص القصص في هذه المجموعة يتخلقون من رحم المعاناة التي يكتبها القاص ويؤرخ لها، وينقلها الراوي بكل أمانة، ليزاوج بين ما هو واقعي مقبول وبين ما هو متجاوز لحدود الممكن ولاسيما في صور المعاناة التي تتلبسهم كل بحجم دوره ورسالته، فهؤلاء الشخوص يتقنون تفاصيل أيامهم ومقاسات أحزانهم، وحجم يأس ينغص عليهم، فلا يجدون بدا من السير خلف أقدارهم على رَحل السرد، وحكاية العناء، وصور الشقاء الذي يفرض وجوده على مشهد الحياة.
فرغم أن لكل شخصية من هذه الشخصيات دورها ومكانها إلا أنها قد تتناسخ، أو تعاود الظهور من قصة إلى أخرى، لكن بحيز محدود وبملامح متقطعة على نحو الفلاحين في منطقة الأحساء والمعلمين في المدارس، والفقراء في شوارع المدن المنسية، ووجوه الشخوص في إحيائهم المهملة.
حيز الزمان السردي في هذه القصص مترامي الأطراف، ويعتمد على هيئة الإيحاء أو استدراج الذاكرة لتقول شيئاً عن الحكاية القديمة، فتحظر هنا الذكريات، وتشتعل فنون الوصف لما كان من قبل، وما آلت إليه هموم الناس في هذا الفضاء الحكائي الذي برع فيه الكاتب العليو، لينسج لنا هذه الرؤى المتوارثة عن هم الإنسان وحزنه وحجم معاناته، بل وصوركثيرة من عناده ومشاكسته للواقع والرحيل إلى جهات كثيرة هربا من منغصات هذا الزمن، أما المكان فإنه حاضر بقوة، ويستمد وجوده من مكونات الحياة في منطقة الأحساء، حيث الحقل والنخل والناس البسطاء والمدرسة والشارع المترب ودروب تؤدي إلى الغربة، وطرق أخرى تعود بالمغادرين عن أرضهم محملين بشيء من الأمل، وبمثله من الألم.
** ** **
إشارة:
- معترك الذكريات «قصص قصيرة»
- أحمد العليو
- مؤسسة الانتشار العربي - بيروت - 2014م
- تقع المجموعة في نحو (80 صفحة) من القطع المتوسط