تلقّيتُ دعوة كريمة من المشرف على مركز المُشير في عنيزة د/أحمد عبدالرحمن القاضي للحضور وإدارة اللقاء الذي نظّمه المركز تحت عنوان (مع الشاعر أحمد الصالح في رحلته مع الشعر) مساء الأربعاء 4/صفر1436هـ، ولم أتردّد في قبول الأمرين، إذ كان المركز موفّقاً في اختيار الموضوع ( وهو موضوع رحلة الشاعر مع الشعر)، وموفقا في اختيار الشاعر أحمد الصالح للحديث عن رحلته مع الشعر، فقرأ الشاعر صوراً مختصرة من تجربته الشعرية الثرية، وهي صفحات تظهر للمرة الأولى.
فلكل إنسان رحلة وتجربة في الحياة، وهي ـ من النفاسة والأهمية ـ جديرة بالكتابة، وكتابة الانسان أو حديثه عن سيرته وحياته تحمي من الوقوع في النتائج غير السليمة حول بعض الأشخاص لشح المعلومات الموثّقة عنهم.
لذا فما (أجمل) و(أجدر) أن يتحدث أو يكتب الانسان عن (حياته) في (حياته)، أو عن زاوية من زوايا حياته المتعددة، كأن يكتب ـ وكلٌ حسب اهتماماته ـ عن : تجربته مع التدريس، تجربته مع الابتعاث، تجربته مع التجارة، تجربته مع الصحافة، تجربته مع الكتابة، تجربته مع الخطابة وهكذا، وذلك لإفادة المنتسبين الجُدد في هذه النشاطات، ولإفادة وتعريف أبنائنا ـ الذين من أصلابنا ـ بشطرٍ مهم من حياتنا قضيناه بعيدا عن أنظارهم، إذ اعتدنا أن نلتقيهم في البيت حين نأوي إليه آخر النهار، دون أن يتعرّف على نجاحات وإنجازات أبيه في عمله خارج البيت، بسبب أنهم ربما لايسألون عما حققناه، وكذلك نحن في زحمة الحياة وصخبها لانرى أهمية لإخبارهم بذلك، حتى أنه ربما يصبح أبناؤنا أكثر الناس جهلاً بآبائهم.
كما قد يجد البعض حرجاً أو تردداً عن الحديث عن أنفسهم، من باب التواضع أو نكران الذات، في حين نرى أن جامعات غربية تستضيف أو تتعاقد مع مشاهير،ووزراء، ورؤساء دول للحديث عن تجاربهم ورحلات نجاحهم أمام الناشئة، فإن حديث الناجحين والأعلام وسيرهم ورحلتهم مع النجاح لهي دروسٌ عمليةٌ ومدارس (تمشي على الأرض).
فأحمد الصالح ليس مجرد شاعر عابر في منطقة الشعر، كما يعبرها بعض الشعراء للقيام بمهمة كتابة قصيدة لمناسبة ما، ثم يخرج مسرعاً إلى أعماله واهتماماته الروتينية، بل هو من المقيمين الدائمين فيها، فهو يمتلك فيها (رؤية) شعرية و(مشروعا) واضحا، و(اهتماما)و(أهمية )، حتى أصبح اسمه حاضراً في معظم كتب الأدب السعودي الحديث، وأصبح شعره ميداناً لدراسات متعددة لدى طلاب الدراسات العليا في الجامعات.
بدئ اللقاء بحديث الشاعر أحمد الصالح عن تجربته ورحلته مع الشعر، التي بدأت مبكرة قبل دخوله المدرسة، حين كان ـ كما يقول ـ ((أستمتع بقراءة والدي رحمه الله للشعر العربي الجاهلي منه والإسلامي ابتداءً بشعر حسان وكعب بن زهير والخنساء إلى شعراء الدولة الأموية والعباسية وبخاصة جرير والفرزدق والأخطل وأبوتمام والبحتري وغيرهم ، وأشعار المتنبي وشعراء المهجر وشوقي، كان الوالد إذا قرأ الشعر يقرؤه قراءة المتذوق المستمتع بما يقرأ مما جعلني أتوق إلى أن أصل إلى هذه اللذة التي كان والدي يجدها في هذا الفن الرفيع وكان يشركني في قراءاته بأن يشرح لي بعض الصور الشعرية والكلمات التي يستعصي علي فهم معناها خاصة الشعر الجاهلي. وهذا ليس بغريب حيث كان يقول الشعر وله مجموعة من القصائد تشكل ديواناً))، ففي هذا إشارة من الصالح إلى أسلوب تربوي مبكر، وهو التربية بالقدوة، فما أكثر ما نُطالب أبناءنا بالنجاح والتفوق دون أن نقودهم إليه .
كما أشار إلى أسلوب تربوي هام تلقّاه من والده، وهو ضرورة أن يرفع المربي سقف الطموحات لدى الناشئة، إذ سأله والده ذات مرة : هل تتمنى أن تكون شاعراً؟قلت: نعم. قال: مثل مَنْ ؟ قلت:مثل شوقي. قال:إذاً تكون دونه بمراحل، ولو قلت مثلاً مثل المتنبي لأصبحت مثل شوقي أو دون ذلك، بل اطمح يابني للأعلى دائماً واقرأ الشعر الجيد.
ثم نشأ مع (الكتاب) في مراحل مبكرة من عمره، فيقول : ((ولما كنت في الخامسة والسادسة ابتدائي أهداني والدي جواهر الأدب وديوان عنترة وديوان الشابي فكنت أقرأ عليه مايستعصي عليَ فهمه وقرأت كثيراً من شعر شوقي وفي المرحلة المتوسطة أهداني والدي دواوين إيليا أبي ماضي. قرأت عليه فيها كما قرأت عليه كثيراً من معلقات العرب كزهير وعمرو بن كلثوم وأمرئ القيس وعنترة كما قرأت لامية العرب ،كما أهداني كليلة ودمنه واشترك لي في مجلة سندباد التي تحفل بكبار كتاب القصة للأطفال أمثال كامل كيلاني وسعيد العريان وسعيد جودة السحار بلغة عربية فصيحة وأسلوب أدبي رفيع ،وقد كان سفر والدي في الإجازة إلى مكة المكرمة لمراجعة مديرية المعارف فيما يخص مدارس عنيزة فرصة لي لقراءة الدواوين والكتب التي كان يرى أنه من هو في مثل سني لايحسن القراءة فيها مثل ألف ليلة وليلة وديوان أبي نواس وبشار وغيرهم)).
ومنحته هذه البيئة المتميزة، تفوقاً على النفس، وتميزاً في المحيط، فاضطر ـ كبعض معاصريه ـ إلى اتخاذ اسمه المستعار (مسافر)، الذي لم يتخذه تهرباً من مسؤولية الكلمة والموقف، وإنما لما يحمله معنى السفر ودلالاته وأبعاده، من معان تتفق مع مشروعة ورؤيته في الحياة، إذ نراه مكتوبا تحت اسمه الصريح على أغلفة دواوينه فيما بعد، وبدأ ينشر شعره في بدايات حياته تحت هذ الاسم، حتى قرّر أن يكشف عن اسمه الحقيقي، بعد أن لمس اضطراباً في نسبة شعره إلى غيره، ورأى نصوصه الشعرية يدّعيها شعراء آخرون كثيرون لأنفسهم.
فقرّر حينها الخروج إلى الساحة المكشوفة، وقبل أن يجتاز العتبة الأخيرة، سافر إلى القاهرة والتقى بعدد من ألمع شعرائها، ليطمئن على مدى نضج تجربته الشعرية فيقول : (( في عام 1392هـ سافرت للقاهره وعرضت قصائد من أشعاري على الشاعر صلاح عبدالصبور فشجعني على إصدار ديوان. كما اجتمعت بالقاهرة بالشعراء أمل دنقل ومحمد أبوسنة وصالح جودت وحسن توفيق ومهران السيد ولما عدت إلى الرياض أعددت مسودة ديواني الأول (عندما يسقط العراف) وكان باكورة دار المريخ للنشر للصديق عبدالله الماجد وبعد إصدار ديواني الأول بفترة وجيزة أصدر نادي الرياض الأدبي ديوان (قصائد في زمن السفر) ثم أصدرت دار العلوم بالرياض لصاحبها الصديق عبدالله العوهلي ديوان (انتفضي أيتها المليحة) وبعده (عيناك يتجلى فيهما الوطن) ثم توالى إصدار الدواوين.. لقد كان الأستاذ محمد الشدي داعماً لي إذ فتح لي صفحات مجلة اليمامة ثم من بعده الصديق عبدالله الماجد الذي كان يشرف على أدب جريدة الرياض، وبعد تركه الإشراف عليها أخذت أنشر في صحيفة الجزيرة بترحيب من الأستاذ خالد المالك ، وبإهتمام من أبي يزن الدكتور إبراهيم التركي حيث أجد تقديره ومتابعته من خلال إخراج صحيفة الجزيرة لقصائدي حتى أنه في معظمها يفرد صفحه كاملة للقصيدة ،كما أنني نشرت في كثير من الصحف والمجلات السعودية وكذلك المجلات العربية)).
لقد أخذ أحمد الصالح على نفسه قراءة الجيد من الشعر القديم والحديث، فقرأ للمتقدمين من الجاهليين والإسلاميين والعباسيين، ثم للمتأخرين من شعراء مصر ولبنان والعراق والمهجر، دون انتقائية معيّنة، ودون أن يؤطر موهبته بأي نوع من (الأدلجة) الأدبية أو الفكرية، التي تئد أحياناً القدرات والمواهب فأخلص للـ (جيد) وللـ (جميل) من الشعر، فأصبح وإياه صديقين حميمين، بل هو الهواء الذي يحيا به، يقول في ثنايا الحديث عن تجربته : ((لقد كان الشعر يشكل لي الإبداع الذي يحمل همومي الوطنية والعاطفية ويتمثل معاناتي عبر هذا الفن الرفيع الأثير إلى نفسي ، ومنذ ذلك الحين وأنا والشعر صديقان حميمان ، أجد المتعة في قراءته وكتابته فهو مستودع همومي وأفراحي وأسراري ويتمثل معاناتي الإنسانية بكل تفاصيلها ، إنه خلوة الشاعر مع نفسه ومع الحياة ومتنفسه الفسيح وفضاءه الواسع الذي يحلق فيه كيف يشاء.
لقد كانت قراءاتي لشعراء التفعيلة والعمودي من الشعراء المحدثين شعراء لبنان وسوريا كالأخطل الصغير ونزار وعمرأبو ريشة وبدوي الجبل وشعراء المهجر كإيليا أبي ماضي وجبران وأحمد زكي أبو شادي وشعراء العراق كالجواهري والصافي والسياب والبياتي ونازك الملائكة ولميعه عباس عمارة وشعراء مصر، أمثال صالح جودت وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأحمد رامي ، وابراهيم ناجي وغيرهم. والشاعر التونسي الشابي وشعراء من الخليج واليمن.
هذا المعين العذب من الشعر ومن قبله الجاهلي الذي لايمل متذوق الشعر من قراءة معلقاته ومذهباته وروائعه الشعرية الأخرى،أجد أنه العمق الحقيقي لكل شاعر،فهو ثروة في المفردات وفي جمال اللغة ودقة التصوير وحميمية العلاقة سواء بين الشاعر وحبيبته أو بينه وبين أرضه وقومه وحتى بينه وبين دابته.
من هذا البحر والكنز الثمين أجد الأنس واللذة بقراءته ، فعلاقتي بالشعر بدأت منذ الصفوف النهائية في المدرسة الابتدائية وامتدت معي واتسعت دائرة الاطلاع والمتابعه.))
وأخيرا. . وبعد مسيرة شعرية تجاوزت الخمسين عاماً، يكون الشاعر الصالح قد أودع في رصيده الشعري، وفي خزينة الشعر العربي اثني عشر ديواناً مطبوعاً:
1- عندما يسقط العراف.
2 - قصائد في زمن السفر.
3ـ انتفضي أيتها المليحة
4ـ المجموعة الأولى
5ـ عيناك يتجلى فيهما الوطن
6- الأرض تجمع أشلاءها
7 ـ لديك يحتفل الجسد
8- تشرقين في سماء القلب
9ـ تورقين في البأساء
10ـ حديث قلب - ديوان خاص
11ـ في وحشة المبكيات - نادي الأحساء الأدبي
12- ديوان أصطفيك في كل حين - سيصدر عن نادي القصيم الأدبي، وتحت الإعداد للنشر: أربعة دواوين ثلاثة منها إخوانيات.
وفي نهاية اللقاء، وقبل أن ينفضّ سامرنا في تلك الجلسة، عبرت في ذهني بعض الخواطر والانط باعات:
- امتلك الشاعر الصالح شجاعة أدبية، حين أعاد طباعة دواوينه في مجموعة أولى عام 1425هـ بعد مرور قرابة 30عاما على صدور ديوانه الأول عام 1397هـ، دون أن يعمد إلى حذف أو تعديل أو تصحيح، حتى ماكان فيها من هفوات لغوية لاتؤثر في المعنى، ثم أضاف إلي المجموعة ما سماه (من الأشعار الأولى)، وكان هدفه من هذا كما قال : ( ليعلم الموهوبون الذين يحبون الشعر ويكتبون إبداعاتهم الأولى أن الشعر يبدأه المبدع بدايات غضة لينة العود، ولكنه بالقراءة وسعة الثقافة ورعاية الموهبة سيكون ذا شأن في ركب المبدعين ).
-يفضّل الشاعر أحمد الصالح الإقامة في المنطقة الجميلة من الحياة، لذا أراه لايعقّب إلا على ماكان جميلا من المعاني والمواقف، فإذا أردت منه أن يرد أويعقب أو يتحدث، فعليك أن تستدرجه نحو مناطق الجمال والنقاء،فهنا ستجد عواطفه ووجدانه يسبق قلمه ولسانه، أما ما عدا ذلك فلن يستطيع أحدٌ استدراجه والإيقاع به في مناطق الضوضاء والصخب.
- اختار الشاعر الصالح أن ينام ملء جفونه عن النقاد وعن الباحثين والدارسين، فلم أجد له رداً أو تعليقا أو تعقيبا على ناقد أو كاتب مهما قسا في نقده، وتلك قمة الثقة، وقمة الوعي بأن الحياة لاتحتمل أن نضيع الوقت فيها بالردود والسجالات، مع فئات من الناس الذين لايفهمون أن الأدب ليس فيه كلمة أخيرة، وأن الحياة أقصر من أن نمضيها في المشاحنات والسجالات.. فقد رأيت الأستاذ عبدالله ابن إدريس تأخذه الحميّة الأدبية، حين رأى الصالح لايكترث بتعليقات النقاد وأحكامهم، فيقوم بالدفاع عنه تجاه من اتهمه بأنه متأثر بشعر نزار قباني ـ حسدا منهم ـ كما يرى فيقول: ((قالوا عن الشاعر في بدايات شهرته وتألقه.. انه متأثر بالشاعر نزار قباني..! ربما ان هذه المقولة تعبر عن طبيعة الحسد والغيرة من مجامليه.. ولكن قلنا.. ليكن متأثراً في بداياته بزيد او عمرو.. ولكن الشاعر ينظر اليه، والى شعره بعد نضوجه، وخروجه الى دنيا القراء والنقاد، الذين يصرفون النظر عن البدايات فيما لو كانت فيها تأثرات ملموسة.. ويتجهون الى ما بين ايديهم من نتاجه المطبوع في دواوين شعريةمعتمدة.
أحمد الصالح شاعر متألق.. شاعر متميز.. تعتز بلادنا به وبمن في مستواه ابداعاً شعرياً مطبوعاً بالموهبة الفنية التي نمت مع سني عطائه الشعري الجيد الجميل حتى أوصلته الى ماوصل اليه..
ولعل مايتميز به عن كثير من الشعراء الحديثين والحداثيين.. أنه يجمع بين الاصالة القائمة، صياغة، على القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة.. ولا يضعف في احداهما على حساب الاخرى، وهذا اوضح برهان على شاعريته المبدعة..
وبعد أن فرغ الشاعر أحمد الصالح من قراءة ورقته عن رحلته مع الشعر، ألقى عددا من قصائده التفعيلية والعمودية. .وكأنه ـ وهو يقرأ قصائده ـ تقرأه القصيدة وتقدِّمه، وليس هو الذي يقرأ القصيدة ويقدّمها، وكأنه للتوّ فرغ من كتابتها طرية نديّة، فهو (مخلوق شعري) وليس مخلوقاً نثرياً، إذ ذكر لي بأنه لايجد صعوبة أومعاناة في أن يكتب أكثر من نص شعري في يوم واحد، في حين أنه ربما يجد صعوبة ومعاناة في كتابة أسطر قليلة من النثر.
ثم شهد اللقاء مداخلات لكل من : د / مصطفى السيد، ود/ خالد الشبل، ود/فريد الزامل والأستاذ الجليل /عبدالرحمن بن علي التركي العمرو، أ/صالح الغذامي، أ / سليمان محمد القاضي، أ/عبدالعزيز الجمعي.
لقد قدم الشاعر الصالح سيرة شعرية مختصرة، وهي نواة مهيأة لسيرة شعرية مفصّلة، ينتظرها الناشئة، وهي ـ في نظري ـ منهجٌ يستنير بها الشعراء الشباب، وتنتظرها الحركة الشعرية في المملكة، لتضاف إلى رصيد الخبرات والتجارب الشعرية في الأدب العربي الحديث.
فلهذا أهيب بالشاعر الصالح ومن في خبرته ومكانته من أدباء المملكة أن يبادروا إلى كتابة وحفظ بعض ـ إن لم يتحقق كل ـ ماتحتفظ به الذاكرة من مواقف، وتجارب، وصور، تساعد على حفظ جزء من تاريخنا الأدبي.