(مقام الصّوت) قصيدة غنائيَّة ديناميكيّة، مكتظّة بالآهات والدموع، وحرقة متشظيَّة في تلافيفها عبر تقنياتٍ مُختلفة تُجسِّد مفارقات باطن الذات الإنسانية في ظلمة الواقع الحزين. والتوتّر الانفعالي الحركي فيها يجلو بادئ ذي بدء من تقنية التَّرميز في العنوان الذي يسري بمورفولوجيته بالقارئ إلى أبعاد زمنية منسيَّة/ حاضرة في ذاكرة وعيه، حيث سلطة الصوت المضافة إلى سلطة المقام، إلى تقنية الازدواجية وثنائية المعنى في ذات السُّلطة تحت ستار كثافة تعبيريّة معجميّة (بتكرار العنوان بلفظه عدة مرات، وبمرادفاته السِّياقيّة « كلامي – ملامي – صوتي – يُعزف – أسمعتُ – نغم – أنَّات – غنّى – مقامي – أوتار – الحرف – يبكي – راقصات») تُسفر عن تيك الآهات بارتباط الصّوت الأزليّ فيها بماضي العروبة وحاضره في مزجٍ كيميائيّ بين إدراك الواقع الذي تُشنق فيه الكلمة، واستلهام نصوص عربيّة أصيلة المقام، تضافرت – كما يقول د. البازعي – مع النّسيج الدّلالي لبنية النص تناصًّا بُغية الوصول إلى السَّقف الأعلى – « تَمَامي تَمَّ «– من حُريَّة الصوت إيجابًا، باستدعائها نصَّ المتنبي ضِمنًا:
مغاني الشّعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الرَّبيع من الزّمانِ
قاصدةً غُربة الصّوت العربيّ حقيقة وواقعًا الذي فيه «يُقاد الحرفُ مشدودَ اللثام»، ومِن ثمَّ:
لقد أسمعتُ لو ناديتُ حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي
(عمرو بن يكرب)
ظهر في قولها:
تمامي تمَّ إن أسمعتُ حيًّا،
ولكن لا حياةَ بذي الخيام!
لتصل إلى قمّة التوتر وبؤرة الشعور في: «ملأنا البوحَ حتى ضاق عنَّا» استحضارًا لبيت عمرو بن كلثوم:
ملأنا البرَّ حتى ضاق عنَّا
وماء البحر نملؤه سفينا
في تناصٍّ اختراقيّ عكسيّ في الدّلالات من مجدٍ وفخرٍ بالذّات إلى شكوى وفخرٍ بما نفقده / بما نأمله / بكان أبي / بما نتناساه لاستحالة مسلكه في «وَقعٍ تحزَّم باللئام» واقعٍ مأساويّ يمتاح من ظُلم وظلامٍ وغدر «والسّرائر راقصات»، وهزائم مكرورة طفحت بها الأرض حدَّ الغرق وضاق بها الفضاء حدَّ الاختناق « وضاق بنا الفضاءُ، وضاق منَّا». بدءًا من الشكوى من الآخر وارتداء حُلَّة التبرير الآسف المُعاد المخادع والمخجل «ظُلِمنا، أو ظَلَمنا؛ فانقسمنا، وأَسْلَمنا انقسامٌ لانقسامِ»، «وضاع العُمر في «إنَّا ، وإنَّا» فلا بُشرى حينها «توضَّأ بالظّما، مادمتَ فينا، وسلِّم، عند منعطف الظلام»، لتتجلّى الازدواجيّة في (صوت بوح، صوت يُغضبه الكلام / صوت حرّ، صوت مقيَّد).
وأخيرًا تناصًّا شكليًّا مع بيت جرير:
أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ
عشيَّة همَّ صحبُك بالرّواح
وتناصًّا في عمق المضمون رفدًا للدلالة المتغيَّاة من النّص مع الشّاعر عيسى عدوي القائل:
أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ
ولم يسمع بدندنـة القداح
شربتُ من المدامة ألف كأسٍ
وليس لندرة المـاء القراح
أما آن الأوان لأن تصلّي
دعاك الفجر حيَّ على الفلاح
فإنِّي قد عرفتُك يعربيًّا
كريم الأصل من قومٍ فصاح
(2006م)
أو ربَّما تعالقًا مع الشاعر عدنان حمَّاد في قوله:
أتصحو أم فؤادك غير صاح
ولاة الأمر ناموا في ارتياح
فلا راعهم ندبُ الثّكالى
ولا أجدى العويل عن النّواح
(2007م)
إذ إنّها أرادت مناداة الضمير العربي والسلطة عالية المقام بأسئلة تدور فيها ثنائيّات ( الشّرب/ الظَّما- الحياة/الموت- الصوت/ القيد): أتشربُ أم فؤادك غير ظام؟
أتشربُ؟ أم ستطربُ إن ظمئنا، وحلَّ الجدبُ ياعالي المقام؟
ومن تقنية التناص المودعة فيها فكرها إلى تقنيةٍ أسهمت في غنائية القصيدة وهي التناوب بين الخبر والإنشاء المتجاوبة مع أنفاسها المتلاحقة تأزُّمًا واستجوابًا وأسفا، ترسيخًا لمآسٍ حياتية عبر شحنات انفعالية من الأسئلة المستنكرة الباكية الرَّامية إلى تنوير ذواتهم بتفجير الحقيقة وفكّ قيد حرّية الكلم، مثل: «وهل شمس نُقبِّلها فتصحو؛ إذا ما الفجر رُمّ على خصام؟»، والأسئلة الآملة في الإحياء والبعث، مثل: «أتشرب أم – على الفُرقى – ستبقى تُبادلنا الظما ليلَ الغرام؟». كما استخدمت الشاعرة الشَّدَّة ذات التأثير الإيقاعي في نفس المتلقي وإيحاءً بشدّة ألمها وتمزّق روحها في «تمَّ – رُمَّ – يسلّ – تحزَّم – تشدُّ – شُدّ – عنَّا – منّا – إنَّا – لوَّام – تفجَّر – هزَّ – شقَّ». وكذلك استدعت ألفاظًا دينيّة متوافقة دلاليًّا مع الدّلالة الكلية للنص «البلد الحرام – السرائر – يبكي على أعتابها – توضأ – سلِّم – لوَّام – مقام».
فمقام الصّوت معادل للصّوت العربيّ / الوطن الأم المزهوّ بنفسه الرَّازح تحت غيبوبة « كُنَّا وكنَّا»، الغاضب من « كلامي / الحقيقة»، الهاجر للحرية والعزيمة الموقظة السّبات، اللا باحث عن فجر وأمل في حياة جديدة. فالقصيدة تعجّ بالألم، تضجّ بالصّراخ، تزدحم بالدّموع والاختناقات عبر تقنيات النص السابقة ومرورًا بتكرارات سياقية: «ملامي أنَّ في صوتي ملامي»، «سلامي للذي أظمى، فأدمى كلامي ثم بادر بالسلام!»، وتكرارات لدوالّ سيميولوجية «؟-!» واشيةٍ بمؤامرة السلام. وتختم أشجان شجونها بتنهيدة وحسرة من الوضع الآني، من الذّوات الصامتة المقيّدة، المُشاهِدة المتَيقِّنَة بمؤامرة السّلام ولكنّها ما تنفكّ تُبادر بالسَّلام تمسُّكًا منها بالمثل المؤاتي لما في هوى خوفها وجوفها « فالسُّكوتُ من ذَهَب»!