Saturday 27/12/2014 Issue 456 السبت 5 ,ربيع الاول 1436 العدد
27/12/2014

وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى

تعوّد الإنسان على ابتكار ما يطمئنه إلى سلامة وضعه، وما يشعره بقدرته على التعامل مع عناصر قريبة منه، ولها سمات المكونات التي يستطيع التحكم فيها. ولم تكن محاولات تجسيد القوى الخارقة للطبيعة في رموز حسية مباشرة وملموسة، إلا مسعى في هذا الاتجاه. وكذلك حاول البشر باستمرار خلق تماثيل رمزية للآلهة، حتى يشعروا بكونها قريبة منهم تحميهم، أو تنفعهم في المشورة والتوجيه.

عُرفت هذه الظاهرة على نطاق واسع في الهند وشرق آسيا، حيث جسّدت كل فئة ما تخاف منه، أو تطمع فيه من قوى الطبيعة على شكل رمز معبود، أو شخصية متخيلة، تأخذ مع الزمن صفة القداسة. وانتشرت الحكاية في بلاد الرافدين وآسيا الصغرى وحضارات شرق المتوسط، ثم انتقلت إلى أوربا مع اعتناق الرومان المسيحية، وتفشي هذه الأفكار في الأقاليم التي كانت تخضع للامبراطورية الرومانية. وغير بعيد زمنياً وجغرافياً كانت المناطق التي يقطنها العرب قد اكتسبت هذه الثقافة، التي أسموها في وقت لاحق بالأصنام، بعد أن فقدت قيمتها التعبيرية، وأصبحت ثقافة متوارثة وذات قيم جمالية فحسب.

لكن العملية قد تطورت عند الكاثوليك في العصور المتأخرة بصورة غير معهودة في العالم القديم؛ فأصبحت مريم العذراء ليست أماً للمسيح فحسب، بل أيقونة من العالم الحسي الملاصق لهم، بوصفها من جنس البشر. غير أن هذه الرمزية تعاظمت إلى الدرجة التي حلت فيها رموزها بدلاً من رموز الرب. حتى أصبح كثير من الناس خارج منظومة التفكير الكاثوليكي يظنون، بأن الثالوث المقدس عندهم يشمل: الرب والمسيح وأمه. بينما هي (مريم العذراء) خارج هذا الثالوث، ولا تمت إلى عالم الآلهة المقدس بصلة موضوعية؛ بل يتكون ذلك الثالوث عقدياً من: الرب والمسيح والروح القدس. والعنصر الأخير ليس حسياً، لذا قاموا بتجسيد ما يحسون به من خلال التماثيل المتعددة لمريم العذراء.

ورغم خلو الإسلام من التجسيد المصنوع يدوياً، وعدم احتواء العقيدة فيه على عناصر حسية، إلا أن بعض الفرق الإسلامية، وبعض الحركات المعاصرة قد انساقت إلى هذه الظاهرة من خلال وضع بعض الرموز الشخصية من قياداتها بديلاً عن السلطات الإلهية غير المرئية. فأصبح تراتب الطاعة وتنفيذ الأوامر يتوقف عند زعيم الجماعة. وأصبح يعدّ مارقاً من يناقش قادتها من البشر، لأنهم قد امتلكوا من خلال هذه الرمزية والتقديس ما يرفع عنهم صفة الخطأ أو الرأي الشخصي، بل إن الأتباع يتباركون بوجوده وأقواله، ويحتقرون عقولهم إزاء ما يفكر فيه، أو يتلفظ به. وفي حالات ليست قليلة تصل سمات الهيبة إلى درجة متقدمة من القداسة.

في العالم القديم ربما كان الأمر مقبولاً، بسبب قلة معرفة الإنسان بكنه كثير من الأشياء، وخلطه بين المشاعر الفطرية (الخوف من الأخطار والحزن على فقد الأحباب والرغبة في الحصول على مصادر الحياة) والوظائف العقلية التقديرية لما حوله من عناصر الطبيعة، ومع مبادئ الدين الذي يعتنقه. فتختلط الخرافة بالواقع والعبادات بالمشاعر الحسية المباشرة. لكن الأمر في العصر الحديث لم يعد مقبولاً أن يتشبث الناس بأناس آخرين مثلهم، ويضعون لهم مرتبة فوق البشر، لأن النسق الذي صنعه أولئك الوسطاء هو الذي منحهم تلك المنزلة.

ومثلما استوعب الشباب في البلدان الكاثوليكية الوضع شيئاً فشيئاً، فأصبحوا ينظرون إلى تلك الرموز على أنها قيم فنية فحسب؛ آمل أن يعي شبابنا أن تلك الأبواق، التي لا تصدر الصوت إلا من أفواه آلاف الأتباع من تحتهم هي مجرد حجب على العقل؛ يلبسون في كل مرحلة لبوسها، ليأكلوا بعقول المساكين حلاوة .. كما يقول المثل الشعبي!

- الرياض