يحمل الاستفحال كبنية لها علاقة بالذكورة في داخله الاستئناث، ويحمل الاستجداء في داخله الاستعطاء هذه (الاس) اللاصقة الأمامية prefix تكون بسينين ثم فك التضعيف بقلب ثانيهما تاءً ، فأصل (الاستفعال) هو (الاسسفعال) تأتي في بداية البنيات السابقة هي بنية أخرى في حد ذاتها لا تدل على الطلب فحسب، بل تدل أيضا على القرب فإذا كانت ( سَ) من غير من غير همزة تدل على الابتعاد فإن الهمزة (ا) المجتلبة هنا هي همزة العكس التي يسميها النحاة قديما بهمزة السلب، وهي تشبه في وظيفتها البادئة الإنجليزية (dis) ، ولكنها أهملت استغناء بغيرها لما تحدثه من لبس وإن بقيت آثارها ، وهي بالطلب والقرب معاً تؤدي إلى الثبات أو الاستثبات والثبات غير معنى التأكيد الذي فهمه بعض اللغويين القدماء
إذن بنية (الاس) هي بنية عاكسة وبنية مثبتة وهي تحمل بالضرورة التفكير في نقيضها ؛ ولذا فإن بنية الاستفحال تعني تثبيت الفحولة ولكنها تحمل بالضرورة التفكير في نقيضها وهو الاستئناث ، وبنية الاستجداء تحمل أيضا التفكير في نقيضها وهو الاستعطاء بين هذه البنى المغروسة في الوعي العربي [الاستفحال x الاستئناث] و[الاستجداء x الاستعطاء] نشأ غرض المدح في الشعر العربي ولكنه نشأ من بنية الهجاء أولاً ، لأن الشاعر الفحل هو ذلك الشاعر الذي يستطيع التغلب على خصومه في الهجاء ليصبح فحلاً ، وإذا كانت الفحولة مقرونة بالتخصيب فإن التخصيب في المجتمعات البدائية والبدوية يقوم في أصوله الانثروبولوجية على العنف والصراع ، وحينما بدأت المسحة الحضارية ترتقي بالعربي وبدأ يستغني بالعنف اللغوي عن العنف الجسدي في إطار علاقة الفحولة التي تستلزم الذكورة والأنوثة معاً بدأ يبحث عن لغة تثبت الفحولة بدلاً من الهجاء الذي ينفيها إلا عن الشاعر ، من هنا نشأ المدح كوسيلة للاستفحال أي تنصيب فحل وتثبيت فحل لغوي ، ولكن الفحولة هي ذكورة وأنوثة معاً ، ولذا كان لابد أن يكون من يثبت الفحولة في وضع الاستئناث ، ولم يكن بد من البحث عن معادل ما للاستئناث فلم يكن إلا عملية الاستجداء أو الطلب للمال كمقابل للاستفحال الذي تخلى عنه الشاعر للممدوح ، في الوقت نفسه كانت الفحولة التي يتمسك بها الشاعر في أعماقه تقتضي وجود بنية الاستعطاء المثبتة لدى الممدوح ولكن في إطار خصي الفحولة أو ما يسمى قتل الأب وأنا هنا أطلق عليها (التحول إلى الأمومة التي تعطي) فكان الاستعطاء هو أمومة مقابلة لفحولة الشاعر وهي في الوقت نفسه علاقة معترف بها في إطار الأقوام البدائية وعند الساميين ثم العرب التي كانت تسمي رئيس القوم أماً وهو ما يؤمي إليه الشنفري في مدحه لتأبط شراً
وأم عيال قد شهدت تقوتهم
إذا أطعمتهم أحترت وأقلّت
ويعد الأعشى الشاعر الجاهلي المتحضر المؤسس الحقيقي لبنى [الاستفحال x الاستئناث] و [الاستجداء x الاستعطاء]، ثم طفق الشعراء الجاهليون يطرقون المدح كالنابغة وحسان والمتلمس وطرفة ( الثائر على هذه العلاقة تثبيتاً لفحولته هو)، وقد تطور غرض المدح بتطور الوعي الحضاري عند العرب وبتطور الأحزاب السياسية ليصبح الوسيلة الدعائية السياسية الوحيدة ، ولعل الأمويين هم الذين ثبتوا هذه الوسيلة وحرصوا عليها ، ولكن ليس في إطار العلاقات والبنى القديمة بل في إطار المؤسسة السياسية بحيث يمدح الممدوح ترويجاً له ويذم أو يهجى أعداؤه ، وهنا خرج شعر المدح عن الشعر وأصبح مؤسسة خطابية دعائية سياسية يجب مقاربتها في إطار سيسولوجي وفي إطار خطابات الهيمنة وما تفرضه من صور واستعارات وأساليب يقول معاوية: «فمن سألنا أعطيناه، ومن استغنى عنا وكلناه إلى غناه ، وأحبكم إلينا السائل»!!
ويحضر في هذا المقام القصتان المشهورتان لجرير بن عطية الخطفى ولعبدالله بن قيس الرقيات في مدح عبدالملك بن مروان ، فجرير يعود إلى الخليفة ليمدحه بعد أن كان يمدح الخليفة المهزوم عبدالله بن الزبير ويبدأ بمفتتح مقصود لاختبار العلاقة الجديدة مع الممدوح الجديد
أتصحو أم فؤادك غير صاح
عشية هم صحبك بالرواح
فيرد عليه الخليفة المستبد بل فؤداك يا ابن الفاعلة ، الخليفة يعلم أن الضمير في البيت للشاعر ولكنه يريد أن يفرض عليه وضع المؤسسة الجديدة والشاعر في الوقت يريد أن يختبر قوة المؤسسة الجديدة بهذا (الضميرالمفتوح التأويل بين المخاطب الحاضر والمخاطب المفترض الذي هو حاضر في الوقت نفسه ولذا كانت المحصلة أمدح بيت قالته العرب الذي يعبر عن الاستبداد في أقوى صوره
أبحت حمى تهامة بعد نجد
وما شيء حميت بمستباح
هنا استفحال جديد استفحال لايمت للبدائية وإن كان امتدادا لها ثم يتلوه استجداء صريح
تعزّت أم حزرة ثم قالت
رأيت الواردين ذوي لقاح
إنه استجداء ولكنه يختلف عن الاستجداء الجاهلي إنه شيء في مقابل شيء إنه بداية جديدة لعلاقة جديدة وللرضا بأحكام المؤسسة مقابل إظهار العوز وإراقة ماء الوجه بطلب العطاء ولابد من إراقة ماء الوجه وإظهار الذل لأنه جزء من المؤسسة الجديدة ؛ إنه تحول إلى ( تسول العبودية ) كما يقول محمد الناجي ؛ فالشاعر خاضع تماما بل في موقف العاجز مقابل التفحيل السياسي الجديد هذه العلاقة التي لا يرضاها العربي الذي نشأ معتداً بحريته استلزمت ظهور النقائض كتعويض للفحولة المهدرة بعلاقاتها القبلية وبعلاقاتها المعقدة التي ظهرت مع الأعشى وأشرت إليها سابقاً
أما الشاعر ابن الرقيات فيخضع لفحص آخر في مقارنة بين الدعاية السياسية التي يقدمها لابن الزبير ولعبدالملك الذي يقلل من قول ابن الرقيات:
يأتلق التاج فوق مفرقه
على جبين كأنه الذهب
في مقابل مدح مصعب
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
ليس لما ذكره النقاد القدامى ولكن البيت في مصعب يحمل تفويضاً إلهيا لا يحمله البيت الذي مدح به عبدالملك والمؤسسة الجديدة تحرص على ربط السياسة بكل ما هو إلهي، لمحاربة الخصوم بالميتافيزقيا التي لا تقوى عليها الفيزيقيا ...
وهنا بدأت مؤسسة المدح تخرج من منظومة الشعر كليا لتتحول منظومة خطاب سياسي كأساليب دعائية يقوم بها (ناظم موظف في البلاط) يرتدي لبوس الشاعر ثم قد يعود بعد ذلك إلى شاعريته في بعض الأحيان وإن خانها في كل الأحيان ... وأصبح المدح جزءا من مؤسسة السلطة فكانت السلطة تنظم هذه المؤسسة وتنظم القبول بشاعرية الشاعروفقاً لقدرته في اختراع وسائل دعائية جديدة وأصبح الشاعر الفحل بمفهوم الفحل في المؤسسة السياسة هو من يخضع للممدوح الفحل ، لذا أكاد أجزم أن الفحولة هي أول مصطلح نقدي ظهر عند النقاد العرب في كتاب الأصمعي فحولة الشعراء وفي كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام ولم يكن في سسيولوجية ظهوره إلا امتدادا لمؤسسة المدح وللفحل الجديد في إطارها ، وجرى من بعد ذلك تثبتت هذه المؤسسة وأصبحت جزءاً من تقاليد القبيلة العربية حتى العصر الحاضر الذي ظهرت فيه وسائل الدعاية السياسية المنوعة والمتطورة ، ولكن الشعراء فيما بعد حولوا هذه المؤسسة إلى مؤسسة تكسب غير مشروع من خلال تزييف الشعر وجعله في خدمة السياسية ولقد حاول أبو الطيب المتنبي أن يعيد فحولة الشعر من خلال تشاركه مع الممدوح في الفحولة ولكنه وإن نجح شعرياً لكنه لم ينجح مؤسسيا إذ استمر المدح حتى الآن وسيلة دعائية ووسيلة تكسب ، وللأسف هو علامة تزييف وعي وهو علامة تخلف لاعتماده على المبالغة كأسلوب وحيد يجعل المتلقي خاضعاً لاستلابها ويجعله خاضعاً للأفق البدائي غير العقلاني في التعامل مع الخطاب المقابل .
واستمرار المدح هو بشكل أو بآخر استمرار لمؤسسة في الدعاية السياسية لا داعي لوجودها للاستغناء بالبديل ... كما هو استمرار لمؤسسة تضر بالعقل وتضر بالحضارة ومن الواجب أن ينقرض حتى في الشعر الشعبي لأنه تحول أخيراً بالإضافة إلى تكريسه للبدائية عن طريق المبالغة والانتشار بعدوى التقليد في المجتمعات البدائية والمخلوقات عالية كالذكاء كالقرود إلى خداع وابتزاز وفي بعض الأحيان لمجرد نوع من التسول العميق وليس التسول السطحي وهذا التسول العميق يعود أيضا إلى الحالة الطفولية البدائية التي تشعر بالضعف والحاجة إلى كبير يعطيها أو إلى أم تحنو عليها لذا هو ملمح إنثروبولوجي كثر عند الأعراب وكتب التراث تحفل بقصص الأعراب الذين يلحون في المسألة حتى مع عدم حاجتهم وما ذلك إلا لأنهم وقفوا في تطورهم من الصيد والغزو على هذه الحالة ولم يستطيعوا مسايرة النقلة الحضارية التي(تنتج) كبقية القبائل العربية المتحضرة ؛ لذا ظلوا مجرد متسولين عالة ، وما زالت الأبواب حتى الآن تكتظ ببقايا الأعراب الذين يملكون الملايينومع ذلك يتسولون لأنهم امتداد أنثروبولوجي للبدائية وهم يحرصون الآن على استعمال المدح والقصائد الشعبية في تسولهم ، ولذا يستحسن بمكافحة التسول أن تقبض على كل الشعراء الفحول الذين يتسولون سواء في الشعر الشعبي أو في الشعر الفصيح لنقول وداعاً أيها المديح البدائي !! وداعاً أيها التسول البدائي