مثلما أرتكب استعارات هاربة من العدم إلى اللون، أستعيض عن الغيب بالفرجة على خازن المدينة ذي الخفين الذهبيين كلما أحكم الأقفال سقطت زجاجة من تلقائها على بلاط بطران أي افتضاح هذا؟..
زينوا لنا الموت حتى قبضنا على جمر أرواحنا خوفاً وطمعاً. لأي إذا نتجرع حبراً حامضاً فيما تهوي المعابد على رؤوس ما ارتفعت قط.
مرتعشاً أفكر تحت بطانيتي في شرطي يطاردني دونما تهمة محددة، في يده اليمنى مسدس كاتم صوت، وفي يده الثالثة قفص تفوح منه رائحة دم.
أنا الآن تحت بطانيتي الراشحة بالحزن، لكنني أخشى أن يقبض على شخص غيري في أحد شوارع المدينة. فمن يضمن لي أن هذا الشخص ليس أنا؟..
إن مدينة تعبد تمثالاً خارج نفسها، لهي مدينة صائمة عما أباحت لها الفطرة، فيما تبذر الرعب على قاطنيها بحكم العادة المقدسة تكرس أقنعة قاتلة يلهو بها المواليد، صنعت من جلد الجواميس السوداء.
أيكم قادر على الركض ها هنا دون أن يمس تعاليم الأسلاف، حيث الإنسان تابع للفكرة حتى وإن عطلت روح الحاسة. ما بتلات الشمع الذابلة في الظلال سوى نبض نحرته دسائس الذهب أم حسبتم موشور الضوء إذ ينشر هالاته على العرش إعجازاً كلي القدرة، أم عسيتم إذا تحرك الشجر من مطرحه يهبط عليكم ضيف ذو عباءة يخلع ربلة ساقه فإذا هي أيقونة تكشف سر الذرية!.
طوبى للحيوان خالداً غير متورط بإكراهات الحياة.. إنه المغامر ذو الروح أبداً يجترح الجسارات ويمرح في الأرض لا غلبة إلا له، هو ظل اللحظة وقرين المياه. خالد بلا اسم إذ إن الخالدين ليس لهم أسماء.
لو كنت في مدينة أخرى غير مدينتي هذه، غريباً بلا جذور أقوم إماماً بلا قبلة، لاستطعت أن أموت على أقرب خشبة، ولكففت عن تفتيش ملامحي كل صباح في المرآة، أفلو كنت مضافاً إلى نفسي مثل غولة زرقاء تحزم البرية في عانتها وتمضي، أفلو كنت كذلك، ألن يتسنى لي أن أخلع ثيابي كلما ممرت بأصدقاء لا أعرفهم، ألن أفلق حلزون الليل إن ضايقني الطقس وارتبكت.
الخزائن مقصورة على الغالبين، بأيديهم المشكولة بالذهب يدبرون قواعد اللعبة، على أسرتهم الوثيرة يفركون حجراً نادراً وينامون، لهم منازل الكنوز ووفرة الفرح، ولنا كتاب باهت ومنسأة مزعومة ملتصقين بحصيرة رثة نمص أصابعنا أو الحصى، ونرقد في الرجس بانتظار أمومة المكان. آه للمكان زبده اللامع في العتمة، كأنه لبادات وبرية، بل هو زبد أبله لاريب، بكثرته برذاذه الظريف بأرقامه اللاقطة يمتحن النار حين يزحف نحو اصطفاف الساعات مقتحماً مدارت لا ترى إلا وهي تغزل عرساً عشوائياً للنمل النافل في الفناء.
أيها الغريب
هكذا ينزف الفلز من ثدييك، يكاد الوحي يتخطفك لولا الشعر وثياب السهرة. دعسات خفيفة وتدخل الفردوس ولكنك ماض بصحبة ملكية الظلال مكتفياً بالدم الكاهن دليلاً على العشب.. إنها بلادك أيها الغريب. صحيح أن الأطفال المشردين كلما فتشوا النفايات والمزابل بحثاً عن الخبز اكتشفوا العسس مختبئين حيثما فتشوا، صحيح ذلك لكنها بلادك أيها الغريب!.. وهل يذدهر إرث الغربة إلا بالحقائق الدبقة مفتوحة على وحشة الموانئ، حيث بائعات اليانصيب يقعدن على خشب أحمر نصف عائم، إذ تساومهن حثيثاً لعلك تستل يوماً هادئاً تشرب فيه الشاي عند أهلك ضحى.. حسبك حجرة شاغرة تركل كرة رأسك ودخان غامض يقصف ما تبقى من وقت.
موغل في سماء نائية، تدفع زورقك نحو صحن نحاسي مجذافك ماثل في غمامة نومك كزجاج مطحون لا يشير إلى جهة ما، يثاقل عليك وقوفك على الحافة، مكوثك سيداً على نقطة قذفت في المتاه، تعاين عاجك المسجون تحت القبة، عما قريب سيرجم رهط مرتهن لقيامة الشجر.
أي منسك يهديك إلى الخلاص وصلاتك ناقصة بتمام المنسي. رقصتك الطائشة في ليل الخرمس هي ارتعاشتك الأولى وأنت تدلف مسكنك في الفلك الكامل. أكلما مررت من هنا لتدرك ذويك قام أحدهم ليغرس شعرة من رأسك في بر بعيد. نحن لا نتفق على الحظ فهو طاسة من زئبق مشغولة بالإبر لكن المريدين لا يحصون. ألا تراهم يرشقون رغوتهم على العرش، ألا تراهم يصوبون نبالهم على مساكب الذهب. وأنت كما عهدناك يكفيك أن تتسلق شجرة جنونك لتمكث هناك. إنه عالم لا يسمح لك حتى بغسل يديك عالم يستحق الفناء لولا الأطفال والشجر.
آه ملكية الظلال كنت تفتقين الوقت كغلام يهشل القطا بعينه، مخلفة حجارة فمك في الروح، تدلفين المساء وحولك مراكب سكرى، تعقدين سلاسلك حول عنقي فيما تزعمين أنك فراشة مريضة، وهبتك مفاتيح السطح يوم اشتهينا فاكهة الكائن اختلسنا لدائن إلهية كالتماعات البرق مركوزة في الظلال ترى ولا ترى، لم يفزعنا محتسب بائد ينحر العاشق أضحية لحجر مرموق. أدحرج مصيري من صراط إلى صراط، يضعونني العصر فلا أجد علامة تدل على في الليل، علام ينحسر الدري ليظهر الشائخ مبكراً، أهو يغافل من أمعنوا في مؤالفة الأشياء. ليتهم هرعوا إلى القوارير المتروكة في النهار، لعلهم يفلتون سداداتها، لعلهم يجربون ظمأ الفلين.
غير أنني عازف عن المزاوجة، غايتي مخدع معتم ألوذ به مع طاؤوسة تشبهني في شكلها الغلامي.
تساقطت الشهب وكانوا مزمعين على مشنقة القرنفل. وجاءوا بدم كذب كما سولت لهم ذئبتهم.
ألياف عليلة تتناسل من حولي محافظة على الضباب الباهر، تشق دلتاها في الذات ولا تستنكف عن خلع ما ارفض من خلايا، حتى اصطفاق الأبواب لا يعني شيئاً طالما أن زهرة نضره لا تختلف عن قطران داكن يصبغ الظلام، والأكيد أن الأبواب تعني أن هناك شخصاً مرهقاً غير مقتنع بأن للمساحة جدوى. لكن متى ينهض المخذول من انتكاسته بين الأنكاث ليتشوف قبساً فائراً خرقته الدينونه فأمسى كبؤبؤ استوفزته العتمة في مثقابها المغمى عليه. إنه ربيع تعرج الأرواح إليه حين تتخفف من أوشابها البالية لتنسرح في الطيران مع أقران لا يشبهون أعشاشهم ولا يركنون إلا الأرائك مرتين. إذاً ارتطمنا خفقة خفقة بفراش يطيش على الرفوف لا ليزخرفها بل ليختبر قدرته -بكل ما يملك من أجنحة وأحوال- على اختراع مصير آخر لا تنوء بحمله السماء.
أنثاك الطالعة من القطن تسكب النبيذ عن اللبلاب وهي تسألك عن قديس مرقوع ثوبه على مؤخرته، ذاك الذي باغتك بانكشاف الهيولى: أيما شخص تضع يدك في يده تتحول يده إلى ذهب ويدك إلى رماد.
تداهم الدليل في قيلولته الزائغة سارحاً يقلب الناموس الخامس في المرصد الحي، يدلك على انهدامك اليومي في الدورة القمرية، يشرح لك أسرار النعاس البعد الآخر للموت، تكاد تتمسح باللوح ذي الخرزة السوداء لولا أن رأيت طفلاً يدك السياج بالبازوك الناري، إنه برهان ينقلب على منطقه كل لحظة، حيث المطلق يجمع قرائنه من العدم اللامتناهي ثم يرميها أوراقاً في آخرة الدهر.
يستوي الظاهر خزفاً أليفاً على السرير، ركضه ينهش المسافة في يقين الناس، إنه الظاهر الذي يحترف تمويه المآل قدام سكينة المياه. فاذهب يا هذا كما يذهب ذو الشهوة في طلب العناب ولا ترجعن إلى مدينة لا تؤويك حسبك مليكة الظلال كلما اقتنصت غرنوقاً طرحته في عريشتك المضجرة ليشب الحليب بينكما ويغدو البيلسان اللاعب سبيلكما إلى الله. من أثوابك تهل حلاوة روحك، دمك عامل في نكاح الأمكنة، بل هو حبر يسرد الريش فترة فترة جناحاً جناحاً على الميزان المشتهى فانظر إلى النواسة الساقطة في القوس الأعشى كيف تحرف ميلان القوس وهي تفطم المخمل في رمقه الأخير.
والفجر يلملم ممالكه الأزلية قبل أن تضع الأرض بيضتها في الأفق القديم.