من الألقاب التي يوزعها المثقفون العرب بلا حساب على أفراد ومؤسسات اعتبارية، تلك المتعلقة بتسميات قارات الكرة الأرضية؛ ومن أبرزها اللقب الذي يُطلق على قارة أوروبا، بوصفها القارة العجوز.
بالطبع تنطلق خلفية هذه التسمية من كونها مهد الحضارة الغربية الحديثة (وهي حضارة تخص البشر المعاصرين جميعهم)، فقد تكونت أسس هذه الحضارة في البلدان الأوروبية المختلفة، وأسهمت كل منها في إضافات مهمة في العصور التي بدأت بالثورة الصناعية، ثم أعقبتها ثورات وتطورات علمية وتقنية.
فمراحل تكوّن الهياكل الفعلية لحضارة العصر الحديث كانت قد مهدت لها أولاً فترات التحول من الانغلاق الفكري، والتخلص من الانقياد لأسر الكنيسة من جهة، وسياط الإقطاع بوسائله المعتادة في الابتزاز.
ولم تكن وسيلة ناجعة في إحداث هذه الوصفة السحرية مثل «العقلانية»، التي أحدثت هزة قوية في ثقة الدهماء بأطر التفكيرالمعهودة، كما سببت رخاوة في الأرضية التي يقف عليها أساطين الاستبداد لقرون طويلة مضت، كانت هذه التحولات قد قادها فلاسفة العلم الأوروبيين بدءاً من ديكارت في بدايات عصر النهضة إلى كارل بوبر في العصر الحديث.
ولو لم يقم بعض المصلحين العظام بدور كبير في حلحلة أبنية التخلف والجهل، اللذين عاشت فيهما البشرية طيلة فترات العصور الوسطى، لما أمكن حدوث تلك الثورة الصناعية، ولا النقلة العلمية والحضارية، التي حققها الأوروبيون في أربعة القرون الأخيرة من الألفية الثانية.
وكان أشهر أولئك الإصلاحيين هو مارتن لوثر، الذي تمكن من تحويل المسيحية الكاثوليكية المتزمتة إلى دين منفتح، وقابل للتأقلم مع متغيرات العصور التي تلت تطبيقه في فترات تأسيسه الأولى. وهو التحول الذي أصبح يُعرف لاحقاً بالبروتستانتية، وقد كثُر المنتمون إليها في شمال القارة الأوروبية ووسطها، كما كان عظيم الأثر في مسيحيي الكنائس الأخرى غير الكاثوليكية.
ولأن هذه المنجزات الحضارية قد انتقلت بعض مراكز الثقل فيها إلى أمريكا الشمالية، تبعاً للقوة العسكرية والاقتصادية الكبيرة لذلك العالم الجديد، فإن عدداً من المؤرخين أصبحوا ينظرون إلى أوروبا بوصفها تاريخاً مجيداً للعلم والتقنية الحديثة، لكنه ليس حاضراً بالقوة نفسها، كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية، أو بعض المناطق الآسيوية المتطورة.
فهل الأمر حقاً كذلك؟ وهل أصبحت أوروبا خاوية على عروشها من الإنجاز الحضاري والتقدم العلمي، مثلما يصور أصحاب تلك المقولة؟ بل ما هو مفهوم كل من العجز والشباب في أعمار الأمم أو الأقاليم الجغرافية والشعوب القاطنة فيها؟
تأملت هذه الأفكار وأنا أرى قوائم الابتكارات العلمية، التي تنجز في أوروبا بمختلف مناطقها وبلدانها. كما يقوم الشباب في عدد من بلدان هذه القارة المنتجة بإبداعات قلما نجد مثيلاً لها في المناطق الجديدة لمظاهر المدنية. لكن كثيراً من المراقبين والإعلاميين -للأسف- ينظرون إلى مظاهر المدنية على أنها هي جوهر الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي. هي بلا شك من نتائج منجزات الحضارة في كل حقبة، لكنها -ليست بأي حال- مكونات المركب الشامل، الذي اتفق مؤرخو حياة البشر على تسميتها «الحضارات».
قد يندهش المرء من الأبنية العالية ومستوى النظافة والتنظيم المدني في سنغافورة أو هونج كونج أو دبي؛ لكن أياً منها لا يمثل إلا نهاية المنتج، وليست مراحل تكونه. فالالتباس الذي أوجدته مصطلحات مضطربة في العربية وفي لغات أخرى غيرها، كالتقدم (الذي أصبح يشمل ازدهار العمران وإضاءات الشوارع ليلاً واتساعها) والتطور (الذي لا يفرق فيه بين من يبذلون الجهود المضنية في الابتكار، ومن يشترون الابتكار ولا يوطنونه)، وغيرهما من دواعي التغرير بعقول البسطاء الذين تدهشهم تلك المظاهر؛ لكنهم لا يفرقون بين منشئها ومستخدمها.