إن الدين في ذاته «فلسفة» فكل «عقيدة هي مصدر لفلسفة» وليست «كل فلسفة هي مصدر لعقيدة»، باعتبار أن الكليّات تسبق الجزئيات سواء أكان سبقاً بالجوهر أو العلة، وباعتبار أن الكلي جذر ثابت لعامل القسمة العقلاني.
قد يرى البعض أن هذا القول فيه تعدٍ على «الطبيعة الخاصة للدين» بالافتراض وليس بالضرورة، لأنه ينتقص من «مثالية القياس وعصمته» التي تتميز بها «خصوصية طبيعة الدين»، وثمة مغالطة لفكرة الانتقاص تلك، فليس هناك مثالية حصرية لقياس ولا عصمة خاصة به، لأن كليته سواء بالجوهر أو العلة مجهود بشري والادعاء بوجوب تلك الحصرية والخصوصية غالباً ما يُوقع في التطرف الفكري والسلوكي، لأنه مُلِزم لوجوب قصريّ.
إن فكرة «فلسفة الدين» أو حتى «فكرنتّه» قد لا يتقبلها الكثير منّا، والأسباب في هذا المقام متعددة.
فقد يعتقد الكثير منّا أن فلسفة الدين أو فكرنته تُلغي خاصية «أحاديته» المرتبطة بالوجوب القصري لافتراض خصوصية مستديمة، باعتبار أن الفلسفة والفكرنة قائمتان على التعددية والمقارنة، لأن إخضاع «المثل الأعلى -مصدر الوجوب القصري لافتراض الخصوصية - للمقارنة يستوجب «نظير»، أي مقاربة المشابِه بالتطابق أو التطابق بالمماثِل، ووجود نظير ولو بالمقاربة فيه إسقاط للأحادية وإفساح للتعددية وتعديل للهرمية العقدية للمثل الأعلى، إضافة إلى ما هو شائع بأن التعددية تُلغي الجازم الفردي الذي يتوجب في لزوميته «مسطرة خاصة» من التعاليم تتشكّل في ضوئها «قصدية عقدية».
وبذلك نستنتج أن فكرة فلسفة الدين أو فكرنته فيها تهديد غير مباشر «للقصدية العقدية» وفق ما يُعتقد وليس وفق الضرورة لأن اقتراب أي تهديد لأحاديتها يؤدي بدوره إلى «تضعيف سلطة تمكينها»، وبذلك فنحن ما نزال مرتبطين بالفكرة الرئيسة «قصدية المشيئة المقدّرة».
وقبل الاسترسال في التفاصيل أريد أن أوضح مُستدرَك معين وهو «ثيمة الألوهية» إن فلسفة الدين أو فكرنته قائمة على تحليل مسطرة الدين المؤثِرة في كيفية تشكيل الواقع وتفكيكها ثم كيفية تطوير تلك المسطرة بما يُعين على إعادة تدوير ذلك الواقع وتطويره.
وبذلك، فدور الدين هنا هو دور وظيفي محسوب على الأوعية الثقافية وفق فلسفة الدين وفكرنته، ولهذا لا يمكن اعتبار الدين «المعادل المطابق لقيمة الألوهية» لا جوهراً ولا علة.
وكما يُعتقد أن فكرة فلسفة الدين أو فكرنته هي فكرة مفككة لأحادية الدين وتعريضه للتعددية، يُعتقد أيضاً أنهما وحدة رفع لمطلق الصواب والخطأ، وهذا الرفع بدوره يؤدي إلى خضوع ما يُحسب كمعايير مطلقة الصواب والخطأ لدائرة التداولية وما تتضمنه من حركة وثبات واقتضاء واستحقاقات، والدائرة التداولية في ذاتها فاعل كسر لقالبية الخطأ المطلق والصواب المطلق، بما يعني تحديد مؤهل «القياس» ونفعيته ومدى توافقه مع الفاعل النهضوي أو الاقتضاء النهضوي، وضوابط التحديد تلك لا تضر بصدقية القياس على العكس أنها معين للقياس على قدرة التكيّف مع الواقع والاندماج الآمن مع المقتضى النهضوي.
وكسر تلك القالبية فيه إلغاء لاحتكار العصمة المعرفية وصناعة الأوثان البشرية، لأنه يحقق توزيع سلطة المعرفة كما أن القالبية المكسورة فيها تحرير للعقل من سلطة القرينة الموجِبة للتقليد بفضل توزيع فقه المعرفة المعيارية وتوسيع خارطة تفاعلاتها الفكرية.
وموجز القول في حقيبة جوهر المعرفة أنها «كل معلوم واقع بالحضور والتصديق والجزم أو مُستقبَل بالإمكان والتصور والظن أو محتمل بالتنبؤ والاستشراف».
وتتعدد أصول المعرفة حسب وظيفتها، المعرفة المعيارية والمعرفة الوجدانية والمعرفة التنظيرية والمعرفة التأملية.
والمعرفة المعيارية، كل معلوم ثابت بالقطع غير قابل للإضافة كالجذور والقواعد والمسلّمات، والمعرفة الوجدانية هي المعرفة الانفعالية القائمة على معلوم متصاعد بالتراكم الضاغط، والمعرفة التنظيرية كل معلوم يخضع لعمليتي تفكيك وانبناء لإعادة تدويره وتطويره، والمعرفة التأملية كل مجهول يُبحث لتحقيق تأطير مفهومي، يسعى لاحقاً للتحوّل إلى معرفة معيارية.
ويمكن من خلال ذلك الموجز لأصول المعرفة وفق وظيفتها حساب المسار الترتيبي لأنوع المعرفة لتُصبح المعرفة التأملية هي البدء ثم المعرفة التأملية والتنظيرية فالمعيارية.
كما تتعدد أصول المعرفة حسب مصادرها، وهي «الدين والعلم والخبرة والثقافة» ولو تأملنا تلك المصادر سنجد أن المعرفة المعيارية هي المعرفة الغالبة على مصادر معرفتنا، فالدين هو مؤسس جذور المعايير الأخلاقية، والعلم هو مؤسس القواعد المعيارية المتحكِمة في طرق تفكيرنا، والخبرة هي مؤسِس الإرشادات المعيارية التي تنظم ردود أفعالنا نحو المواقف السلبية والإيجابية، ثم تأتي الثقافة الممثِلة للمعرفة الحرّة المحررة من قيود المعيارية، لكن هذا لا يحدث، لأن الثقافة فببنائها الديناميكي لا يُمكن أن تكون المعادِل التام والنهائي للمعرفة التأملية، لأنها ذات طابع وظيفي وهذا الطابع يربط الثقافة بالخط المعياري لأصول المعرفة، الدين والعلم والخبرة، لأن ذلك الخط المعياري هو الذي يحقق للثقافة صيغتها الإنسانية، ورغم الحرية الفكرية التي تتميز بها الثقافة إلا أن قدرتها على التصرف بالخط المعياري المُكتسب محدود.
وتلك المحدودية بدورها متابِع بالتواصل للخط المعياري المساند لأصول المعرفة.
كما يُعتقد أن فلسفة الدين أو فكرنته بهما فتح مطلق للإضافة وفق توزيع سلطة المعرفة وتوسيع خارطة المعرفة المعيارية، وذلك الفتح قد يُعتبر مفسدة لقيمة الإحالة المعرفية المعيارية الثابتة وتهديداً لفكرة «القطع بالإرادة والاكتمال».
أريد أن أُذكّر أنني في هذه النقطة أطرح ما يدور في إطار ذهن المعتقِد ببطلان فلسفة الدين أو فكرنته أو المعتقِد بخطورة فلسفة الدين أو فكرنته، وما يدور في ذهنه هو حاصل للتوريث والاعتياد والشيوع والتلقين والحفظ أو الاحتراز، وليس بالضرورة ما يعتقده هو أفق مغلق من الحقيقة والصواب.
وهو إطار يبني خلفيته من خلال أمرين هما: التوجس المتوارث من مصطلح الفلسفة الذي ارتبط بالإلحاد والهرطقة والزندقة والتصوّف والتشكيك في الثوابت ومنطقة التشريك والحلولية وإعطاء العقل حق الإضافة بالإرادة والاكتمال لا محتوى الإحالة، والأمر الثاني يتعلق بالمفهوم التقليدي للدين كونه «مسطر تعاليم».
في حين أن الفلسفة هي عملية تفكيك وبناء للعقائد، وهذا المفهوم بحسب النص يتعارض مع فكرة «القطع الإرادي» الذي يتصف به «محتوى الدين».
ولذا علينا أن نتوسع بعض الشيء في ثيمة ثنائية القطع والإضافة وعلاقتهما بفقه المعرفة المعيارية اللازمة لعقيدة القصدية.