«مضى ما مضى منك والقادمات
تضيءُ قناديلها للكبرْ
رويداً تُثقلُ تلك الخطى
وتثلم شرّة ذاك البصرْ
وشيئاً فشيئاً تحول الحياة
شريطاً بدأناه عند الصغرْ»
مضى ما مضى ولكن لا عليك يا صاحبي، سأخفف الوطء على هذا الأديم، وسأذكّر الناس بك وبجمال روحك وبوحك كما هو وكما عرفتك يا أميراً في شعره، وأميراً في نبله وندى كفيه، فالناس تعرف عبد الرزاق الشاعر الضخم الفخم، شاعر القضايا والأوطان، وتنسى أنك شاعر نذرت جهدك وحبك، كما اجتهدنا نحن، للطفولة، فمن يتذكر يا عبد الرزاق اليوم الحلم والطفولة؟!
هل تذكر حين كنت تعد من الواحد إلى العشرة كي تلجم غضبك ونحن في ظلال الرشيد؟!
هل تذكر الرياض حين زرتها فاحتضنتك بطيب أهلها؟
الرياض التي خرج منها الأعشى بمعلقته وشعره العظيم وورده وكوكب حبيبته:
ما رَوْضَة مِنْ رِياضِ الحَزْنِ مُعشبة
خَضرَاءُ جادَ عَلَيها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ
مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْماً بِأطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ
ولا بأحسنَ منها إذْ دنا الأصلُ
الرياض، الرياض التي خرج من محيطها أجمل شعراء العرب؟
أو تذكر مسقط حيت ينام الخليج فنصحو؟
هل تذكر عمّان حيث الأشياء غائمة واضحة، لكن القصائد فاضحة؟
هل تذكر شعرك وقصائدك للطفولة يا من يسكن قلبه طفلٌ لا يكبر؟!
هل تذكر فيم كان همك؟
لكن الهموم تطاولت كشجر وصرفتنا حتى عن طفولة قلوبنا وبياضنا؟
إنها الدماء، الدماء الدماء!!
شلالات الدماء يا عبد الرزاق الجميل كنخل العراق صرفتنا حتى عن التغزل بجمال أهلنا، عن الفن والموسيقى، عن الحياة، كل الحياة، بكل تفاصيلها التي كانت تقودنا للطفولة وأنهارها، هل تذكر مثل هذا الجمال الطفل، وهذا من زادك أي عبد الرزاق:
«كيلا تُمزّقكَ النَّدامة.
لثلاثةٍ،
هذي الأظافرُ لا تُضِعْ منها قُلامة.
منهنَّ أنّ أظافرَ الإنسان تشهدُ في القيامة.
ولأنّها ما حكَّ جلدَك مثلُها،
ولك السلامةْ.
ولأنهنَّ أخير أسلحة الدفاعِ عن الكرامة..!!».
إنه سحر الشعر، وبراءة الروح، الأرواح التي تحب السماء فقتلوها قبل أن تفرد أجنحتها، ولكن لا بأس يا عبد الرزاق فجمال الإنسان حيث الطين والماء، ونحن الطين والماء يا صاحب الماء والشعر والطير والطين.
«مضى ما مضى منك خيراً وشرّ
وظلّ الذي ظل طي القدرْ
وأنت على كل ما يزدهيك
كثير التشكي، كثير الضجرْ
كأنك في خيمة الأربعين
تُخلّعُ أوتادها للسفرْ
وتجمع للدرب زاد المقلّ
كفاف المنى، وطويل السهرْ
على أنّ في قلبك المستفزّ
جناحاً يغالبُ أنْ يؤتسرْ
وفيك وإنْ لم تفه صيحةٌ
يطول مداها ولا يُختصرْ».
حزينٌ أنا على البلاد والطفولة والعباد، لكنني فرحٌ في النهاية بعمرٍ قضيته مع جمال روحك وشعرك يا نخلة عربيّة عالية من نخلنا الذي لا يموت.
طاب خفق جناحك الذي ما زال يغالب أن يُؤتسَر يا صاحبي.
** ** **
* كل المقاطع المقوسة للشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد.
- الرياض
mjharbi@hotmail.com