ومن أبرز أفكار أفلاطون حديثه عن «الدولة الشمولية» التي كان يرى أنها الدولة التي يعمل فيها الرجال والنساء جنبًا إلى جنب، فقد اعترض أفلاطون على حصر عمل المرأة في المنزل، وضرب مثالا بديعًا في هذا، فقد شبّه المجتمع الذي لا تتعلم فيه النساء ولا تعمل، بالإنسان الذي أعطاه الله يدين اثنتين؛ ولكنه أبى إلا أن يستخدم يدًا واحدة فقط!.
ولابد في الدولة الشمولية عنده أيضا، أن تلغى (الامتيازات الفردية) المبالغ بها، بما في ذلك مثلا الملكيات الفردية لرؤساء المدينة وحراسها وعلية القوم.. ولابد فيها -أي في الدولة الشمولية، أن يتم إنشاء رياض للأطفال إن صح تعبيري، وأن تكون المدارس فيها مشتركة، أي مختلطة على حد فهمي.
هاجمه البعض وانتقدوه بعنف في دولته الكاملة أو الشمولية، وباعه حاكم سرقسة في سوق العبيد، بعد أن رحب به في البداية وتبنى أفكاره؛ ولكنه تخلى عنه وباعه كعبد، بعد أن أدرك خطورته على ملكه، وأنه -كملك- لا يستطيع تطبيق تلك الأفكار المثالية على واقعه.. لقد أدرك هذا الحاكم المسمى «ديونيسيوس» أن خطة أفلاطون تحتّم عليه أن يصبح فيلسوفا أو أن يتخلى عن الملك.
دفعتْ تلك الانتقادات الحادة والأحداث المؤلمة التي حصلت لأفلاطون.. دفعه كل ذلك إلى التراجع عن بعض أفكاره، فتغيّر طرحه إلى حد ما، في كتابيه اللاحقين «السياسي» و»القوانين»، وقد نعود إليهما لاحقا في مقالات مفصّلة.
والخلاصة هي أنه أدرك أن فكرة (الملوك الفلاسفة) التي طرحها في الجمهورية، عصية على التطبيق في كثير من المجتمعات، فوضع بعض الفروق بين الحاكم المثالي الفيلسوف وبين رجل الدولة السياسي، وتوصّل إلى ضرورة وجود القوانين التي تعين السياسي وتضبط الناس.
لقد غيّر في تصوره للمدينة العادلة بعد الهجوم عليه، فزاد تركيزه على «القانون» كما ذكرنا، فالعدالة دائمًا وأبدًا هي مطلب أفلاطون الملحّ.. كما تراجع نسبيًا -بعد الهجوم عليه وبيعه في السوق- عن «إلغاء الملكية الفردية» وتحدث عنها بطريقة تختلف كثيرا عن حديثه السابق عنها.. كما تغيّر قليلا في موقفه من المرأة، فوضع بعض الحدود لحريتها، ولكنه لم يتراجع عن مواقفه الإيجابية تجاهها.
أما الديمقراطية، وما أدراك ما الديمقراطية.. فقد لا يعجبكم رأي أفلاطون فيها يا عشاقها، فالديمقراطية في نظر صاحبنا كارثة -أحيانًا- إذا أفرط فيها، فهو يرى أن الديمقراطية تظهر بشكل جميل عندما نتحدث عن المبادئ الأساسية لها، أي عندما نطالب بها باعتبارها قائمة على المساواة بين الناس في الحقوق السياسية، كحق الحصول على المنصب السياسي وتقرير السياسة أو السياسات العامة.
ولكنها تنقلب إلى دمار وخراب جسيمين، إذا طُبّقت والشعب غير جاهز أو غير مؤهل لها، خاصة من الناحية التعليمية، التي ركّز عليها أفلاطون كثيرًا.
فالشعوب الغوغائية أو الفوضوية غير الناضجة، أو ضعيفة الوعي عامة والوعي السياسي خاصة.. أو التي تحتاج إلى تأهيل وإعداد تعليمي لرفع مستواها المعرفي ودرجات نضجها وخبراتها.. هذه الشعوب وأمثالها لا تصلح لها الديمقراطية في رأيه؛ لأن بحر الجماهير الهمجية الجاهلة الهائجة سيغرق سفينة الدولة، التي لن تصمد أمام أمواجه المتلاطمة، في حال فتح لهذه الشعوب المجال الديمقراطي بلا ضوابط.
أعتقدُ أن أفلاطون كان يريد إرسال رسالة مختصرة مفادها: الديمقراطية جميلة؛ ولكنها لا تصلح لشعب لا يفهم.. لا تصلح لشعوب لا تتقن إلا لغات الضوضاء والغوغاء والعجيج والضجيج.. إنها لا تناسب إلا الشعوب الفاهمة المتحضرة الراقية، القادرة على وضع خطط الحكم واختيار أفضل العناصر لإدارة الدولة.. إنها لا تناسب إلا هذه المجتمعات المتقدمة فقط؛ ولكن دون إفراط فيها أيضًا.
لقد حذر أفلاطون من تمكين الجماهير من العامة الدهماء والرعاع، خاصة في المجتمعات الفوضوية المتخلفة.. لقد حذر من تمكينهم من العبث بالسياسة بنزواتهم وغباواتهم الساذجة؛ لأنهم -في رأيه- ينخدعون بسهولة في اختيار موظفي الدولة، وتحكمهم نزوات غوغائية وأهواء ومصالح ورغبات خاطئة مختلفة عند التصويت، تجعلهم يصوتون لأشخاص لا يصلحون للسياسة.
فينجح أشخاص ماكرون في جمع أعداد كبيرة من الأصوات من هؤلاء البسطاء المخدوعين، بحيل وطرق كثيرة، رغم أنهم عاجزون ويفتقدون القدرة على إدارة المدينة أو الولاية بعدل وحكمة، والنتيجة الخطرة التي ستؤول إليها الدولة في هذه الحالة، هي انتصار حكم « الأوتوقرا طية» أي حكم الطغيان والجبروت والفردية والتسلط الخاضع لولاء الرعية، بلا دستور واضح ولا قانون بيّن!.
وأجمل ختام لهذه المقالة، هو الإشارة إلى أن أفلاطون كان مؤمنًا بخالقنا مبدع الوجود، رغم أنه سابق لغالب الأديان.. لقد كان إيمانه بوجود مهندس عظيم لهذا الكون كبيرًا جدًا.. كيف لا وهو الذي جعل التعرّف عليه غاية كبرى من غايات الفلسفة، بل الغاية الأساسية منها؟!
وقد ظهر لنا هذا في سلسلتنا السابقة، حين أشرنا إلى أنه عرّف الفلسفة بقوله: «هي البحث عن حقائق الاشياء او الموجودات ونظامها الجميل لمعرفة المبدع الأول، ولها شرف الرئاسة على جميع العلوم».
ولمن أراد الاستزادة من قناعة أفلاطون بوجود الخالق المبدع، وغيرها من قناعاته العقدية والأخلاقية، فبإمكانه الرجوع إلى نظريته «نظرية التذكّر»، وأيضًا إلى رأيه في مسألة» قدم العالم وحدوثه» فقد أدلى فيها بدلوه - مثل كثير من الفلاسفة في مختلف عصور الفلسفة، وقد ظهر لي أنه صرّح بأن العالم حادث، رغم كثرة الجدل حول موقفه من ذلك.
بل أرى أن مفهوم الحدوث عند أفلاطون يتفق مع ما ينص عليه الإسلام وغيره من الأديان، من أن الخلق بدأ من عدم، رغم وجود فرق يسير بين موقف الإسلام وموقف أفلاطون، فديننا الإسلامي الحنيف، يرى أن الخلق جاء عن عدم محض، أما أفلاطون فحدوث العالم عنده -حسب ما ظهر لي- جاء عن إعادة تشكيل لمادة قديمة.
ولذلك أستطيع -كباحث- أن أقول من ناحية: عززتْ ديانات كثيرة من أفكار أفلاطون السابقة لها، خاصة المتعلقة بمسألة حدوث العالم.. ومن ناحية ثانية: أعتقد أن فلسفة أفلاطون وغيره من الفلاسفة المؤمنين الأوائل، مهدت أمام الإنسانية الدروب لكثير من الديانات، وخاصة التوحيدية.
ومن ذلك التمهيد مثلا، أنه كان جادًا ومُصرّاً وحازمًا جازمًا في تبنيه مذهب الثواب والعقاب في العالم الآخر، وهذا واضح جدًا في كثير من حكاياته الرمزية الجميلة، التي أكد فيها على وجود عقاب لأهل الشر بعد الموت، وهو ما يتفق مع كل الأديان السماوية.
وبما أن أفلاطون أقرَّ وأكدَّ على وجود الخالق وآمن به، فيأتي السؤال العميق: هل يقر بوجود عناية من قبل هذا الصانع بهذا العالم؟ هل المهندس العظيم يتدخل في شؤون العالم؟!
نعم، وهذا ما ترجح لي بعد تدقيق وتمحيص شديدين، رغم تضارب أقواله -في نظري- وأقوال من حللها بعده، خاصة عندما تحدث أفلاطون عن الكواكب، وعن التفاصيل الدقيقة لبنية الكون، وعن إخراج الصانع الأشياء من الفوضى إلى النظام، وأنه وهب الأشياء التناغم والانسجام، وعن وضع العناصر الأربعة...الخ.
مع ضرورة ملاحظة نقطة هامة هنا، وهي أن أفلاطون تأثر ببعض الأساطير العقدية اليونانية التي كانت سائدة في عصره، مما شوّش -عليَّ- صورة موقفه العقلي المجرد البحت، من كثير من المسائل العقديّة.