«تدحرجْ أيّها الخاتمُ، تدحرجْ خلالَ بوابة الربيع لتطرقَ بابَ الخريف عبرَ الصيف حتى تفترشَ بساطَ الشتاءِ معلنًا انتهاء العام». حكايات عالمية الخريف حوذي ماهرٌ يقودُ عربة الشتاءِ بكلِ ثقةٍ، ويشي بقسوة الأخير للمنتظرين على الدرب ليكونوا على أهبة الاستعداد لمجيئه مهما كان مباغتًا. ولا يتمتع الربيع بهذه المهارة -رغم أن كليهما فصلٌ انتقاليٌ- ولا يحتاج الصيف لمثل هذا التحضير، ولعله لهذا لا يكون سوى فصلٍ ملائمٍ للسباتِ والكسلِ والفوضى! يروقُ اللونُ الذهبي لحوذينا الجميل فيصبغ به الكون كأنه «ميداس» آخر بلمسته الخاصة! كلنا عبر بنا الخريفُ مرة، وترك لنا بصمتَه التي من ذهب - في لحظاتِها الأولى على الأقلِ - حين تركنا بيوتَنا لنتعرّف وجوهًا جديدة على أرضٍ جديدة، قيل إنها أرضُ المعرفة! ونستعيدُ هذا «الطقسَ» مرة كلَ عامٍ طوال اثنتي عشرة سنةً، يقال إنها سنواتُ تحصيلنا العلمي الأوليّ! حين كانت مدرسة التربية الفنية تطلب منا رسمَ منظرٍ خريفي كان أولَ ما يتبادر إلى أذهاننا منظرُ أوراقِ الأشجارِ الذهبية التي تغطي أرضَ المتنزهاتِ والحدائق -حتى لو لم نرها على أرض الواقع- الأمرُ الذي يذكّرني الآن بصورِ شهور ِالخريفِ في «الروزنامِة» اليابانية التي كان أبي يحرص على تعليقها كل عام. الأسنانُ أيضاً مثل تلك الأشجار تعيش - في طفولتنا التي يسمونها ربيعَ العمر - خريفَها على طريقتها حين تسقط لتفتح في الأفواه نوافذَ وأبوابًا تسدها أخرى أكثر صلابة، تمنحها لنا الشمسُ الذهبية التي نغني لها كما تقول الخرافة! في بعضِ النهايات بداياتٌ أجمل، حتى إن احتاج بعضها إلى قليلٍ من «التقويم»... يبدو الغمام الخريفي مثل حصانٍ مجنحٍ يحلّقُ عاليًا بالأحلامِ التي ستنال قسطًا من السباتِ شتاءً، موعودة بالمطرِ منذورة للربيع الذي يزهر في صدورنا، يبذره الخريف ويستفيقُ مثلَ سنابلِ القمحِ على عتباتِ الصيف حاملًا وسمَ الخريف الذهبي، ولكي لا يخدعك بصرُك فتخلط بين السنابلِ والقش.. استفتِ قلبك! ها هو حوذينا يكاد أن يترجّلَ أنيقًا بقفازيه الذهبيين مقدمًا صولجانه لشتاءٍ متجهمِ الملامحِ رغمَ بياضه القطني الذي يذكّر بحضنِ الأمهاتِ، ما زال في الأيام فسحة لغرسِ أحلامِك، فانتقِ بذورَك بعنايةٍ...