أضحى عمر الخيام (439- 526هـ) الذي يُعدّ أشهر شعراء الفارسية على الإطلاق، والذي يتمتع بشهرة عالمية لا يدانيه فيها أيُّ شاعر فارسي آخر، من الشخصيات الجدلية التي أثارت حولها كثيراً من التساؤلات والزوابع على مرّ العصور والأزمان؛ إذ إنّه شخصية يكتنفها كثير من الغموض والإبهام، وعلى الرغم من كل هذه الشهرة التي يحظى بها فقد اختلف فيه حدَّ النقيض؛ فمن النقاد من عدَّه فاسقاً زنديقاً، وماديّاً ملحداً، وعبثياً وغارقاً في كأسه حدَّ الثمالة، ومنهم من عدَّه زاهداً وصوفيا،ً وعارفاً وولياً من أولياء الله؛ فقد أُتهم بالكفر والإلحاد، والزندقة والباطنية، ومذهب اللذة، والأبيقورية، واللاأدرية، والتناسخ والتصوف، والحقيقة أن هؤلاء وأولئك قد ظلموه وافتروا عليه؛ فالخيام لم يكن هذا ولا ذاك؛ فقد كان فيلسوفاً حرّاً يطلق لخياله وبنات أفكاره العنان، يصول ويجول متسائلاً بحرية مطلقة عن قضايا الكون والوجود، والموت والحياة، والفناء والخلود، والجنة والنار، والثواب والعقاب، وباحثاً عن أجوبة لأسئلة أرقته، ألا وهي أسئلة الموت والحياة، والكون والوجود وفلسفته، وسبب هذا الاختلاف يعود إلى بعض النقاد في إيران، الذين حاولوا إلباس الخيام ثوب الزهد والصوفية؛ كما فعل العلامة محمد تقي جعفري في كتابه «تحليل شخصية الخيام» الذي فسَّر الرباعيات تفسيراً صوفياً، وسار على هذا الدرب آخرون منهم الدكتور حسين إلهي قُمشي، وهذه المبالغة في تفسير الرباعيات وتأويلها أوجدت نزعة مضادة، وردود فعل مختلفة عند آخرين، من أمثال الأديب الإيراني المشهور صادق هدايت الذي ذهب إلى أن الخيام كان مادياً ودهرياً في كتابه «ترانه هاى خيام» (أناشيد الخيام)، الذي شطّ فيه كثيراً، ونحى منحى آخر؛ إذْ إنّه عدَّ الرباعيات «ثورة الروح الآرية على المعتقدات السامية»؛ في حين أن هذه العبارة التي تختزل فكر صادق هدايت، وتفسر نظرته للعرب والساميين تصدق على شخصيته، وكتاباته المعادية للعرب والإسلام، وليس على الخيام، كما نرى هذه الاختلافات لدى المستشرقين الذين انقسموا إلى فريقين أيضاً: إذ ذهب نيكولاس المستشرق الفرنسي إلى أن الخيام كان من أهل التصوف والعرفان، وتابعه في هذا جوكوفسكي المستشرق الروسي؛ في حين كان فيتزجرالد المستشرق الانجليزي يرى أن الخيام غير ذلك، كما أن الاختلاف في شخصية الخيام دعت بعض الإيرانيين إلى القول بوجود شخصيتين باسم الخيام، أحدهما صوفي، والآخرمادي دهري، كما فعل محمد محيط الطباطبائي في كتابه «خيام يا خيامي» من أجل حلّ لغز هذه الشخصية، وتفكيك هذه الازدواجية التي سبّبت لهم الحيرة والاضطراب، والحقيقة أن هذا التلفيق لم يكن سوى احتيال، وخداع لأنفسهم وللآخرين، وما هو إلا محاولة للتغلب على الشكوك التي ساورتهم حول الخيام وشخصيته، ولو أنهم قالوا بأنّ الخيام كان فيلسوفاً حرّاً لكفاهم هذا.
لقد حظي عمر الخيام بشهرة عالمية لا يدانيه فيها أيُّ شاعر فارسي آخر على الرغم من قلّة شعره؛ فالفردوسي صاحب الشاهنامة المشهورة، التي يزيد عدد أبياتها على خمسين ألف بيت، وجلال الدين الرومي الذي يزيد شعره على سبعين ألف بيت، وحافظ الشيرازي المعروف بغزلياته، وسعدي الشيرازي المشهور بـ»البستان» و»الكلستان» لا يتمتع أيٌّ منهم بالشهرة العالمية التي حظي بها الخيام؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو سرّ هذه الشهرة؟ ولماذا اشتهر الخيام عالمياً، دون غيره من الشعراء الفرس الآخرين منذ وقت مبكر؟!.
لا شكَّ أنَّ سرَّ شهرة الخيام العالمية وعظمته مرهونة بالحكمة والفلسفة الكامنة في رباعياته، التي عبَّر فيها عن قلق البشرية من الحياة، والخوف من الموت، والتي عزف من خلالها على هذا الوتر الحساس، الذي شغل بال الإنسانية على مرّ العصور والأزمان، ولا ريب أنّ تميّز الخيام يكمن في هذه القضية، التي يطرحها بعبقرية فذة، ونبوغ نادر: إنّها فلسفة الحياة والموت؛ التي قضّت مضجعه، وشغلته ليل نهار، وجعلته يعاني من الحيرة والاضطراب والقلق من الكون والوجود؛ فقد أمضى عمره في رحلة البحث عن الإيمان، والحقائق الكامنة في أعماق الكون والوجود، ولا شك أنها رحلة شاقة، تتطلب الخوض في مسائل دقيقة وقضايا حساسة.. علّه يستطيع فكّ أسرار الخلق والوجود، وكشف الحقيقة الأزلية أو شيئاً منها على الأقل؛ وهذا ما برز واضحاً في رباعياته التي ركّز من خلالها على هذه الفلسفة، في محاولة منه للإجابة على الهواجس التي شغلت أفراد البشرية قاطبة منذ الأزل، فقد كان حقاً شاعر البشرية جمعاء؛ فهو الذي عبَّر عن آلامها، ومعاناتها، وهواجسها، ولواعجها، وكان الناطق باسمها على مر التاريخ.
إنَّ المفارقة العجيبة أن عمر الخيام -الذي طبقت شهرته ال شرق والغرب، والذي كان رياضياً مبرّزاً، وفلكياً فذّاً، وفيلسوفاً مشهوراً، ونابغة قلَّ مثيله، والذي عاش في الدولة السلجوقية ووضع التقويم الجلالي نسبة إلى جلال الدين السلجوقي، في حين عجز ابن سينا عن تنفيذ هذه المهمة وقد أوكلت إليه سابقاً، وهو التقويم المعمول به في إيران حالياً، والذي يبدأ بالحادي والعشرين من آذار من السنة الميلادية؛ أي ما يعرف بـ»عيد النوروز»- توفي ولم يكن أحد يعرف أنه شاعر؛ في حين اكتشف أول رباعي له بعد موته بمئة سنة، كما عثر على أول مجموعة شعرية تحتوي على قائمة من رباعياته بعد ثلاثة قرون من وفاته، بينما وصل عدد الرباعيات المنسوبة إليه -وهي التي أضحت إحدى المشكلات التي يواجهها الأدب الفارسي المعاصر- إلى الآلاف؛ فقد ظلم مرات عديدة في حياته ومماته، والرباعيات التي نُسبت إليه، وترجماتها، وتفسيرها وتأويلها، وتركيزها على اللهو والمجون، واللذة والشهوة، والفسق والفجور، والجانب المادي.
لقد اشتهر الخيام في الغرب بداية عن طريق ادوارد فيتزجرالد، الذي ترجم الرباعيات لأول مرة إلى الإنجليزية عام 1859 للميلاد، وعندما نشر ترجمته في طبعتها الأولى التي خلت من ذكر اسمه لأسباب كثيرة لم يجد من يشتريها، فاضطر إلى توزيعها على أصدقائه مجاناً، إلا أن هذه الترجمة لاقت رواجاً قلَّ نظيره في المجتمع الغربي في طبعاتها الأخرى، بعد أن كُتب لها الشيوع والانتشار؛ والسبب في ذلك يعود إلى فهم فيتزجرالد وتركيزه في ترجمته على اللذة والشهوة، واللهو والمجون، واغتنام الفرصة، والمجتمع الغربي مجتمع مادي بذاته، ولذلك شغف بها وهام فيها، وبذلك اشتهر الخيام في الغرب أولاً، ثم عادت شهرته إلى إيران مسقط رأسه، واليوم يتمنى الإيرانيون لو أن هنالك ألف فيتزجرالد حتى يعملوا على التعريف بالأدب الفارسي وأعلامه؛ صحيح أن شهرة الخيام العالمية ترجع إلى هذا المستشرق، بيد أن فيتزجرالد ظلم الخيام وأساء إليه من حيث لا يدري؛ فقد ركّز في ترجمته على الجانب المادي، واللذة والشهوة، والمتعة واللهو والمجون، واغتنام الفرصة، حتى ارتبطت صورة الخيام في الأذهان بهذا الجانب، وأصبحت الحانات تسمى باسمه، وتتمّ معاقرة الخمرة على سماع أنغام رباعياته، وزُينت ترجمات الرباعيات بالصور العارية ظلماً وعدواناً، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ترجمة ادوارد فيتزجرالد يعتورها كثير من النقص والدقة على الرغم من جماليتها؛ خاصة أنه كان يترجم الرباعيين والثلاثة في رباعي واحد، بعد أن يدغمها مع بعضها البعض، وقد وصفت ترجمته بأنها «ولادة أخرى»، وعلاوة على هذا فإنّ الترجمة الشعرية ليست دقيقة بشكل عام؛ لأنّ الشعر غير قابل للترجمة، وإذا ما ترجم فإنه لا يترجم إلا بشق الأنفس، وبعد أن يفقد كثيراً من معانيه وجمالياته؛ ناهيك عن الجوانب البلاغية الأخرى.
ومن الجدير بالذكر أن هنالك مستشرقين سبقوا فيتزجرالد في الإشارة إلى الخيام، منهم: توماس هيد الإنجليزي، وفون همر النمساوي، ونيكولاس الفرنسي، إلا أن الفضل في شهرة الخيام في الغرب تعود إلى فيتزجرالد وترجمته الشعرية الرائعة، على الرغم من أنها لم تكن ترجمة دقيقة، وعلى الرغم من الظلم والتشويه الذي لحق بالخيام من جراء هذه الترجمة التي ظلمت صاحب الرباعيات، وافترت عليه، وأساءت إليه مرات عديدة: في الترجمة الإنجليزية، والترجمات الأخرى التي تمت عنها إلى اللغات الأخرى، بسبب شهرتها وانتشارها العالمي.