بعد ستة أشهر في أمريكا توقفت خلالها عن الكتابة في هذا الملحق الأصيل الذي يجد صداه هنا في أمريكا كأعلى صنف نشر ثقافي صحفي في المملكة؛ لم أجد من الموضوعات غير ما يتوقعه القارئ البسيط من مغترب مثلي، كأن أكتب عن رقي التعليم أو هلاميات الحضارة التي يتوقع القارئ الكريم أنني لا أزال متفاجئاً حتى اللحظة بصدمتها! لكني وفي اللحظة لم أشأ أن أكتب عن كل هذا المتوقع، إذ هنا من الموضوعات الثمينة مالم يتناوله الكثير، ومالم يستوفيه ثُلَلٌ من القادمين إلى المملكة بعد رحلة علمية قدِّرْ وقتها ما تشاء!.
هنا في أمريكا توقفت عن الكتابة ستة أشهر! حتى لا تبدو مقالاتي كردة فعل، أو لحظة انبهار، أو حالة نشوة! لقد التفتُّ إلى حقائق لا أتوقع أنها ستحسب يوما ما على أنها أدلجة! لأنها في ذات الوقت أمام ميزان العقل والهداية الذاتية والرشد. وحين أوغل إلى بعضٍ من هذه الحقائق ألفت قارئي الكريم إلى أن ما أسرده لا أجبر أحداً على الإيمان به كما هي عادتي في طرح الفكرة وتجنب المراء.
أمريكا! الوحش العملاق الذي تجمعنا به علاقة إستراتيجية لم يعد ذلك الوحش الذي تزينه مخالبه كما في السابق! ليس معناه أن هذا البلد فقد قوته أو يعاني الاحتضار، ولكنه يعاني كثيراً من الأزمات الاقتصادية التي سوف تجعله ولأول مرة يتصدر العالم في إنتاج النفط، آخذاً من المملكة المرتبة الأولى منذ عشرين عاماً! وهذا ما لا يمكن أبداً تفسيره على سبيل الانتعاش! ولذا وفي حال بدأ هذا الشريك الإستراتيجي يقود نفسه نحو التخلي عن صدارة العالم، فإن هذا يعني خسارة كبيرة سيمنى بها الشركاء من هذا العملاق العظيم على مستويات عدة ثقافية واجتماعية ومادية.. أما الأخيرة منها فليست محور حديثي وهي واضحة وجلية في الوصول مع الوقت لأضعف نقطة تحكم من الجانب الأمريكي في اقتصاد العالم، إذا هو بدأ الآن في محاولة إنقاذ نفسه باستهلاك نفطه؛ ما يجعل الدول النفطية الشريكة والمرتبطة بالدولار تتكبد العجز المستمر في موازناتها نظير تخفيض صادراتها لفسح المجال أمام النفط الأمريكي في السوق العالمية.
وعن الجانب الثقافي، وهو المهم في تاريخ ومرحلة الشركاء لهذا البلد المتصدر منذ سبعين عاما؛ فهو يكمن في نشوء أجيال جديدة تكاد الآن أن تكمل لباسها الثقافي بالنسيج الغربي الذي تشرَّبته منذ سنوات! ولا تزال تتشربه بسرعة البرق يوماً بعد يوم! وبلا شك فالنسيج الغربي الثقافي في جزئيات معينة هو مصدر حيوي للعقلية العربية التي افتقدت للأسف تطورها في غياب القدوة التي ينشدها العربي المعاصر. لأنه وكما أرى في عقلية الرجل العربي: فهو في مراحل تاريخه يحتاج دوماً لمثال قوي يحتذي به، إذ هو غالباً يفضل تولي آخرين قيادة السفينة، في حين يحاول هو مراقبتها لا أكثر.
والآن وقد أوشكنا على رؤية الشريك الإستراتيجي مثالاً عالياً في الحضارة المعاصرة، لابد وأن نسأل أنفسنا أيضا عن التأثير الذي سيخلفه في المقابل أي انهيار سياسي في الصفيحة الغربية؟! إن التصدر الثقافي والعلمي الذين نراهما اليوم جاءا تبعاً للتصدر السياسي، ولذا وبكل بساطة: فعند حدوث ضعف في الصفيحة السياسية سيؤدي ذلك في المقابل إلى انهيار ثقافي يتمثل في رؤية معظم الصورة النمطية الغربية إلى رؤية قديمة ومنهارة تماما كما لو نرى من شبابنا اليوم من هو مفتون بالنموذج الثقافي الروسي!.
إنني لا أعير اهتماماً بالخسائر المادية التي من المحتمل تكبدها، فلم تكن المادة يوماً ما ذات صلة بالهوية أو التركيب الثقافي الحقيقي للمجتمعات، ولكن الأهمية الكبرى تكمن في الخسائر الثقافية التي ستخرج لنا جيلا ربما أن بعضه أضاع هويته الحقيقية، وربما يتفاجأ بانتهاء صلاحية هويته الجديدة، تماماً كما فعل الغراب مع الحمامة!
تساؤلات مشروعة وحقيقية أثارت انتباهي منذ وصولي لهذه البلد الرائع! كيف سنبدو «ثقافيا» إذا ما تخلت الولايات المتحدة عن صدارة العالم؟ وهل مخزوننا من الهوية العربية الحالية سيفي بكل احتياجاتنا؟ ومن يمكنه إصلاح أجيال مزدوجة الهوية في حال طلبها للحل السريع؟.