نختتم اليوم ترجمة بحث بروفيسور غابرييل آر. واربر المنشور في (المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط) (IJMES) وهي كما هو معروف أهم مجلة محكمة في العالم للأبحاث المتعلقة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا:
- الشريعة في السودان : التطبيق والنتائج (1983-1989)
ومن بين القادة الإسلاميين الثلاثة الأكثر بروزاً، كان الميرغني الأكثر تصالحية تجاه الحركة الشعبية لتحرير السودان؛ فبعد المحاولات الفاشلة المستمرة للصادق المهدي ومبعوثيه، قام الميرغني برحلته إلى أديس أبابا في نوفمبر عام 1988، وعاد إلى الخرطوم ومعه اتفاق لوقف إطلاق النار، وقعه بالأحرف الأولى مع جون قرنق وكان ينبغي التصديق عليه من قبل الحكومة والجمعية الوطنية. وكان من المقرر أن تبدأ المفاوضات مع قيادة الحركة الشعبية في يناير عام 1989. وكان تنازل الميرغني الرئيس - وهو الأمر الذي رفضه الصادق سابقاً - هو أن لا تدرج القوانين- الإسلامية لسبتمبر 1983، في برنامج عمل الحكومة. وكان هذا الامتياز هو الذي، كالمتوقع، أدى إلى أزمة حكومية أخرى، لأن (الجبهة القومية الإسلامية) رفضت قبوله.
وبالرغم من خسائرهم الفادحة في مذبحة مارس 1970، فإن طائفة الأنصار برزوا مرة أخرى كأقوى طائفة في السودان وفاز ذراعهم السياسي، (حزب الأمة)، في انتخابات 1986. ونتيجة لذلك، أصبح الصادق المهدي رئيساً للوزراء من دون منافسة طوال المرحلة الديمقراطية الثالثة. سياسته كرئيس للوزراء في السنوات 1986-1989، لا يمكن التوفيق بينها وبين وجهات النظر الليبرالية التي كان قد عبر عنها في وقت سابق. حتى المقربون من داخل الأنصار والأمة كانوا ناقدين لأدائه واتهموه بأنه أصبح المتحدث باسم الإخوان المسلمين. وكان هذا صحيحاً بخاصة في ما يتعلق برفضه الشديد لإلغاء القوانين الإسلامية التي وصفها بنفسه سابقاً بأنها غير إسلامية وتشكل حجر عثرة في العلاقات بين الشمال والجنوب.
كتب الصادق المهدي مقالة مهمة حول مستقبل الإسلام في ضوء العلاقة بين الشمال والجنوب. ورَفَضَ الفكرة العلمانية المتمثلة في الفصل بين الكنيسة والدولة بزعم أنه لا يمكن تطبيقها في مجتمع إسلامي. ولكن الصادق اتفق مع معظم المظالم الجنوبية ضد القوانين الإسلامية، التي من شأنها تحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم. ولكن لأن الغالبية العظمى من السودانيين هم من المسلمين، أصر الصادق أن الإسلام ينبغي أن يكون دين الدولة، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع. وكان تصور الصادق لمستقبل الجنوب بأنه سيكون عربياً ومسلماً بالكامل. هذا من شأنه أن يحدث نتيجة لعدة عمليات: أولاً، استيعاب القبائل نتيجة للزراعة وأراضي الرعي المشتركة؛ ثانياً، تأثير الصوفية والفقهاء، والتجار المستقرين في الجنوب؛ ثالثاً، المشاريع الاقتصادية المنطلقة من الشمال ليستفيد منها الجنوب؛ رابعاً، استقرار أعداد كبيرة من الجنوبيين في مدن الشمال؛ وأخيراً، اعتراف الجنوبيين أن الأعداء المشتركين هما الإمبريالية و(الحضارة البيضاء)، وهو إدراك ساهم في إقناع الكثير من الأمريكيين السود باعتناق الإسلام(22).
وعندما - في النهاية - اضطر الصادق في مارس 1989، للوصول إلى حل وسط مع الجنوب، كانت المبادرة الحقيقية بالفعل قد مرت عبر أيدي قيادة الطائفة الختمية المنافسة. وقدم تحالف من النقابات والجمعيات المهنية وحتى أقسام من داخل الجيش، مذكرة إلى مجلس الدولة في فبراير 1989، توضح أن كل من الجيش والمدنيين بدأوا يفقدون صبرهم بسبب التخبط السياسي للصادق. المحاولة الأخيرة لإنقاذ الديمقراطية، تحت قيادة (حكومة الإنقاذ الوطني)، كانت المحاولة الجدية الوحيدة للتعامل مع المشاكل الحقيقية في السودان. وفي 30 يونيو 1989، قدمت لجنة من كبار المحامين، بمن فيهم قضاة كبار سابقين، ووزير عدل سابق، وعدد من كبار الشخصيات المناصرة لهم إلى الحكومة مشروع قانون بحيث إذا تم قبوله، سيسفر عنه إلغاء نهائي لقوانين سبتمبر 1983 الإسلامية، ويمهد بذلك الطريق لإجراء محادثات سلام مع الحركة الشعبية. ولكن كان هذا بالفعل متأخراً جداً، لأن أولئك الذين في الجيش عارضوا هذا الاتجاه التصالحي وطالبوا بتنفيذ الشريعة من دون تعطيل لا بل وتحركوا قبل الموافقة على السياسة الجديدة(23).
وهكذا عَمَّرَتْ القوانين الإسلامية التي أصدرها النميري والتي ناصرها الإخوان المسلمون لتعبر المرحلة الديمقراطية الثالثة في السودان. وتحت دكتاتورية عسكرية، تسترشد بمبادئ إسلامية راديكالية، أصبحت آفاق التغيير تبدو منعدمة. المشاكل التي سبق أن أشار إليها الصادق المهدي بأنها سبب سقوط النميري، لم تبقَ من دون حل تحت قيادة الصادق ولكنها تفاقمت. لقد كان السودان عشية انقلاب عمر البشير، في 30 يونيو 1989، مفلساً مالياً وسياسياً وأخلاقياً، وكان هذا إلى حد كبير نتيجة للقيادة غير الكفوءة والضعيفة للصادق، ما أدى إلى حالة من العجز في التغلب على الطائفية السرمدية والانقسام الإقليمي.
وفي رواية (بذرة الخلاص) لفرانسيس دينغ، تلفظ الدكتور تراب (زعيم الإخوان) بكلمات كالنبوءة رداً على قرار الرئيس منير جابر بتنفيذ الشريعة:
(السيد الرئيس... كما قلت لكم مرات عديدة، الأشياء التي تقومون بها الآن، والتي من المؤكد أن تستمر لفترة طويلة إذا لم يكن إلى الأبد، هي قرارات وإجراءات متصلة بتعزيز الإسلام... كل ما تقوم به لتعزيز موقف الإسلام لن يكون فقط موضع تقدير بالغ من قبل الشعب، وهو ما يعني تعزيز صورتك السياسية والسلطوية، ولكن أيضاً سوف يكون من الصعب أو من المستحيل التراجع عنه في المستقبل، خوفاً من رد فعل الجماهير)(24).
حسن الترابي يعطي الإذن بالانقلاب
وبالرغم من أن د. تراب كان بالطبع، (شخصية خيالية)، إلا أن الأنا الأخرى (Alter Ego) لتلك الشخصية، حسن الترابي، ساعد في جعلها نبوءة تحقق ذاتها؛ فعندما أدرك أن التسوية مع الحركة الشعبية قد تهدد حلمه في الدولة الإسلامية، أعطى على ما يبدو موافقة ضمنية لأتباعه العسكريين ليتحركوا.
** ** **
هوامش المؤلف
(1) تستند هذه الرواية إلى مجموعة من المقالات المكتوبة بواسطة مزمل سلمان غندور، وهو أحد المقربين من النميري، بعنوان (قصة الجيش والسلطة في السودان)، مجلة التضامن، 1 فبراير - 8 مارس 1986؛ انظر أيضاً غابرييل واربرغ، (الإسلام والدولة تحت النميري) مجلة أفريقيا، (مانشستر)، المجلد 55، الرقم 4 (1985)، ص 400-413 .
(2) جعفر النميري، النهج الإسلامي لماذا؟ (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1980) ، ص 218-223.
(3) فرانسيس مادينغ دينغ، بذرة الخلاص: رواية سياسية (نيويورك: ليليان باربر برس، 1986)، ص 205-7؛ الاقتباس أخذ من ص 207. ويذكر المؤلف بوضوح أن جميع الشخصيات في روايته هي (وهمية تماماً).
(4) منصور خالد، (نميري وثورة مايو البائسة) (لندن: كيغان بول، 1985)، ص 277. كان المؤلف وزير دولة سابق للدولة للشؤون الخارجية في عهد النميري.
(5) عبد الله أحمد النعيم، (حد الردة في الشريعة الإسلامية وتطبيقه: نموذج من السودان) مجلة ريليجن )الدين)، المجلد 16 (1986)، ص 197-224 .
(6) الترابي الذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب النائب العام وبالتالي ليس عضواً في هذه اللجنة بالرغم من انه أَثَّر في أعضائها. كان لـ نيال أبو قرون وعوض الجد أحمد، (المساعدين القضائيين) دوراً فعالاً في صياغة هذه القوانين، بالرغم من افتقارها للخبرة.
(7) عام على تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان (أم درمان: مجلس الشعب، 1984)، ص 17-32؛ انظر أيضاً النميري، النهج الإسلامي كيف؟ (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1985)؛ في الكتاب الأخير، يتناول النميري بالتفصيل المشاكل المذكورة أعلاه؛ انظر أيضاً النعيم، حد الردة في الشريعة الإسلامية وتطبيقه: حالة من السودان، ص 201.
(8) نعوم شقير، (جغرافية وتاريخ السودان)، الطبعة 2، (بيروت: دار الثقافة، 1967)، ص 3-642 .
(9) انظر إبراهيم محمد زين، الدين، الشرعية، والدولة: قانون العقوبات السوداني لعام 1983 (أطروحة دكتوراه، جامعة تمبل، 1989)، خاصة ص 73-5. لآراء الصادق المهدي في هذا الشأن، راجع مقابلة له في مجلة ذا ميدل إيست، فبراير 1980، ص 40.
(10) التنمية الاقتصادية الأفريقية، 21 ديسمبر 1984.
(11) التالي، ما لم ينص على خلاف ذلك، يستند إلى مقابلة حسن الترابي «قضينا على العلمانية»، ذا ميدل إيست (سبتمبر 1979)، كما نشرت في خالد دوران (التطرف السياسي والإسلام: مقدمة وتوثيق) (هامبورغ: معهد الاستشراق الألماني- عدد خاص11، 1985)، ص 3-71.
(12) السودان الآن، يناير 1983، ص 22-23؛ انظر أيضاً مدثر عبد الرحيم والطيب زين العابدين، محرران، (الإسلام في السودان) (الخرطوم: دار الأصالة للصحافة والنشر والإنتاج الإسلامي، 1987).
(13) ويستشهد بهذا الكتيب في زين، الدين، والشرعية، والدولة، ص 85-91.
(14) (الخطبة التي ألقاها السيد الصادق المهدي، في أم درمان) 17 سبتمبر، 1983؛ يستند التالي في المقام الأول إلى رسائل منسوخة للصادق، وإلى مقابلته في مجلة المصور، 26 أبريل 1985.
(15) انظر دنيس أ. روندنيلي، (اللامركزية الإدارية والتنمية الاقتصادية: التجربة السودانية مع نقل الملكية)، مجلة الدراسات الإفريقية الحديثة، المجلد 19، الرقم 4 (1981)، ص 595-624.
(16) كل الاقتباسات هي من النص الإنكليزي الرسمي لدستور السودان الدائم، الذي نشرته الحكومة السودانية في الخرطوم في 8 مايو 1973.
(17) بونا ملوال، (السودان: التحدي الثاني لبناء الدولة) (نيويورك: ثورنتون بوكس، 1985)، ص 30-37. وانظر أيضاً، مرجع سابق، (هل قضى السودان على العلمانية)، أفريقيا، 98 (أكتوبر 1979)، كما نقلت في دوران، (الإسلام)، ص 73-74؛ (الشعب والسلطة في السودان) (لندن: إيثاكا برس، 1981)؛ الاقتباس من ص 41.
(18) كان قانون الحكم الإقليمي عام 1980 يهدف إلى إنشاء خمس حكومات إقليمية في السودان، ولكل منها حاكمها الخاص ووزرائها.
(19) كل التفاصيل هي من كتيب (الجبهة القومية الإسلامية تقدم: مسألة جنوب السودان: مراجعة، وتحليل، ومقترحات)، د.ن. ، د.ت.
(20) ويستند هذا الملخص إلى مقابلات حسن الترابي في مجلة المصور، 1 يوليو 1987، 6 مايو و20 مايو و22 يوليو 1988؛ ومجلة أوراق عربية، مجلد 7 (1988)، ص 62-76؛ ومجلة المجلة، 20 أبريل 1985؛ ومجلة الوطن العربي، 26 أبريل 1985.
(21) آراء الميرغني هي كما أعرب عنها في مجلة الوطن العربي 26 أبريل 1985، وفي مجلة المصور: 26 أبريل 1985، و15 ديسمبر 1988، و17 مارس 1989، ومن بين أنصار الختمية التقليديين كان هناك العديد من الذين كان لديهم هواجس وشكوك خطيرة حول مشاركة الميرغني السياسية النشطة.
(22) الصادق المهدي، الإسلام ومسألة جنوب السودان (أم درمان، مطبعة التضامن، 1985)، ص 16-20.
(23) مجلة أكتوبر، 12 مارس، 9 أبريل، 16 أبريل 1989.
(24) دينغ، بذرة الخلاص: رواية سياسية، ص 276.