عندما تتأمل عنوان ديوان الشاعر محمد عابس «ثلاثية اللذة.. والموت»، في بعده الفلسفي، ستدرك أنك إزاء شاعر يجترح تجربة شعرية مغايرة تجنح للتجديد، ويحترف وضع قارئه على قارعة التأمل والبحث، ليطيب له بعد ذلك فتح نوافذ السؤال. فثلاثيته التي يعبد طرق المعنى إليها، يخط أبعادها الثلاثة ناقصة بعداً، ليجعل البعدين الحاضرين يفضيان للبعد النابض المتواري خلف ستار النقاط.
وفي ديوان يبدو مفعماً بصور المعاني الظاهرة والمستترة، يحيل عابس قارئه للتأمل والتأويل، عبر ممارسة لعبة الإخفاء مخفياً أحد أبعاد ثلاثيته، لتبقى الهوة بين اللذة والموت سحيقة غائرة كجرح، بيد أن قنطرة الحياة المورقة كشرفة أمل والتي قد تشرق عبر قتامة الصورة قادرة على لملمة الأطراف المنفرطة وتجسير الهوة. مع الالتفات إلى أن الرقم ثلاثة رقم مقدس لدى الساميين والفينيقيين ووردت لفظة ثلاثة في جميع اللغات، وإن كانت لفظة ثلاثية قد تحيل أيضاً لتطابق القيمة للأبعاد الثلاثة.
و»إن كنت تعلم أم لا فأنت عندما تنظر من حولك فأنت ترى الدنيا ثلاثية الأبعاد»، هذا ما يقوله لنا العلم، لكن ماذا لو رأيناها ببعدين كما يظهرها عنوان ديوان عابس؟ العلم يؤكد: أننا نفتقد قدرتنا على الرؤية الثلاثية الأبعاد عندما ننظر للصور عبر التلفاز أو في المجلات، ساعتها سنراها ثنائية البعد أي لا نستطيع تتميز كل تلك الأمور مجتمعة، وهو المعنى الموارب الذي يحاول ديوان عابس تكريسه من خلال عتبة عنوانه، في سبيل بحثه عن المعنى المغيب للحياة، وقداسة التشبث بأديم الأرض والجذور، إذ هي قنطرتنا الحقيقية صوب الخلود.
كما تطالعنا المفردة الثانية في العنوان وهي اللذة بحمولتها الحسية والمعنوية، فيؤكد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك كما تذكر المصادر بأن فكرة الخير: يجب أن تُعرّف بأنها هي نفسها كلمة اللذة أو على الأقل تعرف تعريفاً يردها إلى اللذة. وقد وجد الفيلسوف أبيقور سر السعادة في اللذة، التي لا تعني إلا الخير. ولأن الأيقونات المبثوثة في مفاصل نصوص الديوان تبدو تجسيداً حياً للدعوة للحب، للخير، للسلام، فيمكن عندها بيسر تقبل كون معنى اللذة في عنوان الديوان يؤشر إلى معنى الخير بكل أوجهه الممكنة.
وفي عنوان الديوان أيضاً تحضر مفردة الموت في مقابل مفردة اللذة، ليس باعتبارهما طرفي نقيض بل باعتبار الموت معادلاً للذة وبوابة تجاه الخلود، والوجه الحقيقي للحياة التي رغم قرائن وجودها هي في حقيقتها غائبة أو مغيبة. وبهذا نجد العنوان يشرع بوابات معانيه نحو فلسفة أبيقور، فيلسوف اللذة والموت، أو (الأبيقورية) التي انصرف اهتمامها إلى الأخلاق وقيل إن أساسها اللذة، وأن اللذة هي غاية الحياة غير المقصورة على اللذة الحسية، بل تسمو عليها إلى اللذة العقلية. وأن خير اللذات هي في هدوء البال، وطمأنينة النفس، الذي هو الوجه الآخر للسلام الروحي وحب الخير والإنسانية.
«صاحبي: من أجل أن أنام في هدوء، أوزع الهموم، وأنفث الأنهار في الغيوم».
و»ثلاثية اللذة والموت» الصادرة عام 2010 جاءت بعد تجربة غياب على مستوى المنجز المطبوع للشاعر تجاوزت الـ15 عاماً وقدم لها الشاعر موضحاً أسباب هذا الانقطاع. وتسعى نصوص الثلاثية التي تتوزع بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة إلى اجتراح نهج شعري جديد يرمي لتخليص القصيدة مما علق بها من شوائب الرتابة والملل والصيغ الجاهزة، كما أن النصوص رغم غناها بالصور لا تمنح القارئ صوراً مجانية، وتتكئ في غالبيتها على الوقوف على ساحل الذات وما يتقاطع مع الإنسان والآخر في علاقته الجدلية بالحياة والوجود.
وفي النصوص لا تلمس حضوراً طاغياً للأنثى باعتبارها الملهمة المهيمنة، وإنما هناك هم إنساني أصيل وقضايا تدور في فلك الصور، كما أن هناك الطفل والطبيعة وينابيع الصفاء الأولى.
«رفت كعصفور، على باب الشتاء يضم غربة ريشه، يدنو يفتش عن لحون». كما تحضر القدس كجرح نازف وألم ما زال يؤرق الضمير الحي.
«مرج زيتون يناغي حقل توت، وأزاهير شباب في الصباحات تموت»
كما يلمس القارئ صور عشق الحياة بتلويناتها وتفاصيلها الصغيرة، والنظرة المثالية التي تشوب بعضها. كما أن المرأة لا تحضر بجانبها الحسي بل بجانبها الأنثوي، الروحي والعاطفي.
«ها هي ارتادت مكانه، قبلت ذكراه في دفء التراب، وأماطت عن جبين الوقت شال الانتظار».
ويلمس القارئ أيضاً تأثيرات الجانب الثقافي والفكري في تشكيل بنى النصوص، التي يمتزج تكوين معمارها الفني بذائقة وروح المسرح والدراما والرسم والخط لتبدو النصوص كقطعة فنية فاخرة..
وفي النصوص كذلك ثمة تنوع على مستوى الإيقاع، الأوزان، البحور، والصور. إضافة إلى شاعرية مرهفة تتلمس هموم الإنسان، أوجاعه، مكابداته، انكساراته، أحلامه، وتساؤلاته الوجودية.
«ذاهل في الصمت، رجلاي امتطت بي سلم الخوف إلى غير مكان. وأنا أحمل قوما وتواريخ سؤال».
وفي النهاية ربما القارئ على اطلاع بأن للشاعر محمد عابس ديوانان هما الجمر ومفارش الروح صدر عام 1993 عن دار الأرض في لبنان وصدرت طبعته الثانية عن دار المفردات 2009م، وديوان ثلاثية اللذة والموت الصادر عن دار الكفاح عام 2010م، كما أصدر كتاب (فاكهة المرأة وخبز الرجل) عام 1431هـ اشتمل على عدد من المقالات التي صدرت في عدد من الصحف والمجلات المحلية. وكونه سيناريست أسهم في كتابة كثير من سيناريوهات الأفلام الوثائقية وكتابة الأوبريتات والأغاني الوطنية، وسيصدر له قريباً ديوان ثالث يحوي تجربته النثرية الجديدة وديوان آخر للأطفال.
وكانت تلك السطور وقفة خاطفة على عتبة ديوان بحاجة لمساحات أكبر من القراءة المعمقة.