(1)
أن تُولي السلطة اهتماماً بالثقافة فهذا أمرٌ إيجابيّ إذ يتضمّن على الاقتضاء: (اعتراف السلطة بالثقافة، الاستعانة بالثقافة في مواجهة التطرّف الديني، فشل المثقّفين في تمثيل الثقافة والتوازن)، أمّا سلبيّته المباشرة: فذلك حينما يكون على حساب طمس الثقافة كمؤسّسة أهليّة بعيداً عن أجندة الثقافة كمؤسّسة حكوميّة؛ هكذا تحمل السلطة على عاتقها مسؤوليّة إضافيّة إلى جانب الفكر الديني، ممّا يعني: أنّها حاوية للفكر الديني عبر مؤسّسات دينيّة حكوميّة وحاوية للفكر الثقافي عبر وزارة الثقافة الإعلام، وهي بذلك تضع البيض كلّه في سلّة واحدة، وتُضفي على عاتقها ما يؤثّر على وظيفتها الرئيسة في هذا الخصوص: (ضمانة حماية الثقافات، حقوق حريّة المثقّف، وحماية المقدّسات وحقوق المعتقد)؛ وهذا رهانٌ صعبٌ أن يقرّبنا هذا الحملان من مفهوم دولة المؤسّسات المدنيّة الأهليّة، لطالما تقوم السلطة بهكذا أدوار منفردة بالنيابة والوكالة، لأنّ السلطة كما تميل لقراءة دينيّة-سياسيّة واحدة دون قراءات أخرى، فإنّها تنتصر لمضمون في الثقافة يكاد يمحي دور المثقّف في مواجهة السلطة. وإن كان ليس جديداً القول: إن السلطة واضحة في أجندتها ومبرّرة بوصفها سلطة وليست ضميراً، بوصفها صاحبة خطاب وليست ناقدة خطاب، بوصفها ذات علاقة وليست فوق العلاقة، فإنّ ما يؤخذ عليها -مطالبةً وإلحاحاً- هو مدى شرعنة مساحة النقد السياسي الثقافي.
إذاً، السلطة بوصفها أحاديّة -وكلّ سلطة تنزعها طبيعة أحاديّة- تسعى إلى تحويل الثقافات إلى ثقافة عبر علاقتها بالمثقفين، أمّا علاقتها بالمثقّف فإنّها تسعى لتأطيره وتجيير مصادقاته لصالح أعمالها في تحويل الثقافات إلى ثقافة مركزيّة؛ وليس في إنتاج ثقافة مركزيّة من خطأ أو ضررٍ حال وجودها إلى جوار الثقافات المتعدّد التي يفترض أن تحمل على كاهلها نواة الثقافة الوطنيّة، التي هي أيضاً ضرورة جوهرية تربط المواطنة العامة وتصقل الانتماء وتهذّبه، لكنّ المخاطر تنشئ حينما تطمس الثقافة المركزيّة الثقافات الطبيعيّة المتعدّدة، أو حينما تُعيق الثقافات المتعدّدة تكوين هذه الثقافة الوطنية الجامعة، وشيءٌ من هذا يحدث تأثّراً بضبابيّة القضيّة الرئيسة، ممّا جعل الثقافات تهتم وترتبط بقضايا خارجيّة كالانتماء العروبي، أو الانتماء الإسلامويّة، أو التبعيّة الغربيّة.
وأصلٌ في الانشغال الإقليمي/ استيراد القضايا الخارجيّة أفسد تكوين هوية ثقافيّة سعوديّة، ومحلّ هذا الانشغال والاستيراد الثقافي يتمثّل في علاقة الحريّة والتقيّة الثقافية، والخلط بين مفهوم الدولة والسلطة، وتناقضات مفهوم المواطنة مع التورّطات الانتمائيّة لمفهوم واسع في القوميّة العربيّة والأمة الإسلامية، الاختناق بمضامين طائفيّة؛
خطر العرقيّة-الإثنية، خطر المذهبية-الفئويّة أنّه طوقٌ ضيّقٌ يخنقُ سعة الدولة ويُفتّتها.
خطرُ مفهوم القوميّة أو مفهوم الأمة، أنّه تيهٌ واسعٌ يُشتّتُ الانتماء الوطني.
هذا خطابٌ يُصغّر الوطن ويُضعفه، وذاك خطابٌ يقفز فوق الوطن ويفقده.
وها نحن من جهة أخرى، في واقعٍ مأزوم من جهة فكريّة بين خارجين عن الزمان والمكان، ومن جهة واقعيّة بين مختزلين أو قافزين: فإمّا جزءٌ من دائرة الوطن، أو خارج الدائرة.
(2)
هل كان المثقّف السعودي متّبعاً أم مبتدعاً؟ هل استطاع أن يخلق فضاءَه من واقع بيئته ومشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة، وأنْ لا يسبح في فضاءات خارجيّة مجاورة على الظنّ أنّه يمارس دوراً تنويرياً، حيث يخوض في مسائل عربيّة وإسلاميّة، وبالكاد يقترب من مسائله؟ يطرح هذا الجزء ضوءاً عن مدى وجود أو فقدان القضية الرئيسة في طروحات المثقّفين السعوديين، ونحن في هذه المسألة نقترب أكثر، أو نمضي خطوة في البحث عن أسباب بقاء الثقافة السعودية مسألة معلّقة، فلا هي في حال ظهور تام، ولا في حال خفاء.
هل استغلّت السلطة ضبابيّة القضيّة الرئيسة في خطاب المثقّفين لتثبيت غيابها عبر التوزير: ومنح المثقّف وظيفة محدّدة وقضيّة محدودة: (نقد الخطاب الديني-السياسي المتشدّد)، وهي وظيفة ما برحت السلطة نفسها تتردّد في هوامشها ومتونها (بين ما هو مباح ومتاح)، وحينما يبتعد دور الثقافة عن نقد السلطة وتفكيك العلاقة مع الخطاب الديني-السياسي المعتدل، ويقترب من نقد خصومها فقط، فإنّ المارد يتحوّل إلى داجن ويفقد رقمه الصعب في معادلة التوازن الوجودي داخل الدولة؛ فما يكفي انحصار عمل النقد الثقافي على نقد رجال الدين، ونقد سلوكيات الفرد السعودي، وإبقاء السلطة فوق النقد: هكذا نمارس في حقّنا نقداً ذاتيّاً، هو أساس في التنوير لكنّه يبقى ناقصاً ولا يثمر ما يُراد له من صالح عام، أو أنّه يرتدّ على أصحابه بالتطرّف ما لم يكتمل في نقد السلطة، وهو الخطّ الأحمر الذي وضعه المثقّف واستثمرته السلطة.
(3)
لقد مرّت الأسئلة التي أعقبت (أحداث جهيمان) دون إجابات ثقافيّة؛ ولعلّ السلطة اختارت التحفّظ في الإجابات على أسئلة من نوع: من أين جاء الإرهاب؟ وهل تلبية تلك المطالبات-الثغرات التي استغلّها أو اختلقها اليمين المتطرّف قادرة على إزالته نهائياً؟ هل كانت ثغرات واقعية موجودة في المجتمع السعودي أم أنّه استغلّها في غفلة عن السلطة والمثقّفين؟ مات (جهيمان) الجسد! لكن، ماذا عن الفكر-الروح؟ ألم يكن على المثقّف أن يوجّه أسئلته للسلطة عن مخاطر تلبية ما جاء به خطاب التطرّف ظنّاً أنّها تسدّ الباب عليه؟ وماذا عن أسئلة أحداث أيلول/سبتمبر؟ كيف تناولها المثقّف السعودي؟ إنّ فرق التعاطي الثقافي بين الحدثين يظهر تبدّل المرحلة الثقافية من المراهقة الحداثويّة التي شوّهت الحداثة المرتبطة بالعلم واختزلتها في الشكل الأدبي، وبين المرحلة التي أعقبتها وهي مرحلة تزايد فيها النشاط الحقوقي والثقافي مع اتّساع هوامش الحرية، (يأتي الحديث عن مراحل المسألة الثقافية في مقال قادم من هذا الموضوع) لكنّ التطرّف لم يجفّ منبعه؛ ومرّة أخرى: (أين الخطأ؟)، ما هي الأسئلة التي توجّب على السلطة تفكيكها لتقويم أخطاء التجربة الماضية، أو بحث تبعيّة إقصاء طروحات بعض المثقّفين الذي سلّطوا الضوء على مخاطر مسايرة الديني-السياسي: كيف نجفّف مصادر الإرهاب؟ ما هو مشروع الإصلاح؟ أين هي الثقافة الوطنيّة؟ كيف نبيح للمثقّف أن يقوم بدوره في الحدّ من التطرّف؟ هل يكون طرفاً مؤقّتاً تابعاً أم طرفاً دائماً وأكثر حُريّةً؟ لقد تحمّلت السلطة مسؤوليّتها بدءاً ببرامج المناصحة، وليس انتهاء بتوزير الثقافة ضمن وزارة الإعلام، وبقيت بمنأى وحذر عن الدور الثقافي الأهلي لمساندتها في هذه المهمّة، مخافة صراعات داخليّة تفاقم مسألة التطرّف ولا تحدّه، وهي بذلك تسعي على الافتراض إلى الموازنة بين الفكر الديني بوصف التجربة الماضيّة كان يشوبها انغلاق، وبين فكر المثقّفين بوصفهم يملكون إمكانات الانفتاح.
ولكن، هل تحقّق التوازن؟ يخبرنا الواقع المادي والواقع الفضائي أنّنا لم نقترب من التوازن الكفيل بحلّ المسألة الثقافية ومسألة التطرّف، وذلك لضبابيّة الحلول وتناقضاته الثقافيّة والدينيّة والسياسيّة، ممّا يزيد الإشكاليّة الوجوديّة تعقيداً: (ماذا أريد، من أنا؟) إشكالية الهويّة والغاية.
إن فقدان استقلاليّة الهوية الثقافية الوطنيّة (بدلاً من الهويّة العروبيّة أو الإسلامويّة) أثّر على المثقّف في استيراد القضايا الثقافيّة الخارجيّة، وليس فيما يسمّى: (خصوصيّة سعوديّة) ما يقترب من مفهومنا للهويّة الثقافيّة الخاصة الجامعة، فتلك الخصوصيّة تضخّمت تحت تأثيرات رجال الدين وعادات جزء من المكوّن السعودي وليس كلّ المكوّنات، فتلك الأجندة الدينيّة-الاختزاليّة والمجتمعيّة الفئويّة لم تخلق خصوصيّة منتجة للمواطنة، بل لعلّها من أسباب تأخّر مفهوم المواطنة القائمة على التعايش والانفتاح السلمي على الآخر، ولذلك فإنّ غياب ثقافة وطنيّة حاضنة للثقافات المختلفة ومرتكزة عليها جعل المثقّف السعودي متأثراً وعرضة لتجارب وهويات ثقافات دول المحيط، تأثراً اقتراضيّاً وافتراضياً؛ فنحن لا نتوقّع أن يتابع اللبناني أو المصري أو السوري مثلاً وينشغل أولاً بالتفاصيل السياسية والثقافية السعودية على حساب قضيّته الثقافية السياسيّة الرئيسة، كما نحن منشغلون بأوضاعهم الداخلية؛ ولذلك باءت تلك الاستيرادات وما تفرّع عنها أو نتج منها غير ذات تأثير.
ومن هنا نفهم كيف كانت صدمة (أحداث جهيمان) على المثقّف السعودي المشغول تحديداً بقضايا خارجيّة لا شأن لها بقضيته الرئيسة؛ ولكن ماذا أعقب تلك الصدمة؟ هل كان اقتراباً أم ابتعاداً عن القضيّة الأساس في تفكيك علاقة الديني بالسياسي، ومسؤولية السلطة عن هذه العلاقة، ومسؤوليّة المثقّف عن تفكيكها ونقدها؟