إن «الفكر» الإلحادي يبدو، في حقيقة أمره، غير فكريّ، ولا علميّ، ولا عقلانيّ أصلًا، وهو- في الغالب- غير أخلاقيّ أيضًا. وإنما هو نزوعٌ نَزِقٌ، لدوافع نفسيّة، أو اجتماعيّة، أو حضاريّة، أو لمزاج من تلك جميعًا. وما عليك، لكي تتحقَّق من ذلك، إلّا أن تراقب خطابه العامّ؛ فتلفيه إيديولوجيا، تدّعي الحُريّة، وعنصريّة، تدّعي الإنسانيّة، وتشنُّجًا مريضًا، يدَّعي العافية وسلامة الطويّة، وقُبح لغة ومخاطبة، يدَّعيان الجمال والمسالمة للعالَم، وانغلاقًا وإقصاءً، يدّعيان الانفتاح وقبول الرأي الآخر. فكرًا عَدَمِيًّا، رافضًا منطق العقل، قبل كلّ شيء، عبَّر عنه قول (وليم جيمس) في إنكار الميتافيزيقا: «إنما مَثَل المؤمن بالميتافيزيقا كشخصٍ أعمى، دخل إلى حجرة مظلمة، في ليلة مظلمة ليلاء، ليبحث عن قِطَّة سوداء، وقد لا تكون موجودة!» وهذا تفكير حِسِّيٌّ، مظلِم، مقفَل العقل. ومثال جيمس نموذج لنمط ذلك التفكير، وإلَّا ما نظن ذلك الشخص الأعمى من الغباء بحيث يعجز عن الاهتداء إلى وجود القِطَّة السوداء أو عدمه، إلّا إذا كان في عماه وذكائه كوليم جيمس. أي إذا كان لا يهتدي إلّا بالإدراك الحِسِّي والمشاهدة المباشرة. ذاك لأن ثمة وسائل كثيرة للإدراك، غير الرؤية المباشرة للقِطط السود في الظلام، حسب أُضحوكة جيمس! تلك، إذن، خصائص طافحة في خطاب المُلحِد، كما لا تجدها في أي مِلَّة أخرى أو عقيدة. ومردّ ذلك إلى أن الإنسان يتحوّل إلى ديناصور، أو وحش غابة -بل أكثر من ذلك- حين يتجرّد من تلك الضرورات الروحيّة للإنسان. وأقول «أكثر من ديناصور أو وحش غابة»؛ لأن تلك المخلوقات إنما تحكمها الغريزة والحاجة، لا الأمراض النفسيَّة والأحقاد الوجوديَّة، بخلاف الإنسان حينما تلبسه تلك الأمراض والأحقاد. ولعلّ الله ما أرسل ذلك النيزك الذي ساعد على انقراض الديناصورات، قبل 67 مليون عام، إلّا من أجل تهيئة الأرض لسُكنَى الإنسان، الحقيقي الإنسانيّة؛ لكن الإنسان يتحوّل إلى ديناصور أخطر، يسفك الدماء، ويحرق الأخضر واليابس، ويُهلِك الحرث والنسل، ويُفسِد في الأرض، بكُفره، وفكره المريض، وجبروته، وطغيانه، ولا أخلاقيّاته، ممّا يستأهل نيزكًا آخر، لتخليص الكون من (الإنسان الديناصور).
والسؤال الحادّ إزاء خطاب الفكر الإلحادي المتهوّك- من قبيل ما نجده في كُتب عبدالله القصيمي، على سبيل النموذج- هو: كيف يَحكم على أن كل ما في الوجود إنما سقط مصادفةً هكذا، وأنه عَبَثٌ مطلقٌ بلا منطق، ثمّ لا يسأل نفسه هو: «إذا كان ذلك كذلك، ترى كيف توصَّلت أنا إلى هذا الاستنتاج؟» أليس من خلال العقل الذي يعتزّ به في رأسه؟ فإن كان استنتاجه استنتاجًا صحيحًا، فهو كاذب إذن في قوله بالعبث في الوجود، بدليل استنتاجه الصحيح، الذي جاء نتاج عقلٍ صحيح في رأسه، وغير ساقط ولا عبثي، وُجد لحكمة من موجِدٍ حكيم؛ ولا يتولّد الصحيح من سقيم، ولا القائم العقلاني من ساقط عبثي. أمّا إنْ كان استنتاجه استنتاجًا غير صحيح، فهو كاذب أيضًا في قوله بذلك العبث؛ لأن استنتاجه استنتاج غير صحيح أصلًا، وإنما هو نتاج عقلٍ مأفونٍ، أو عقلٍ عبثيٍّ، ككلّ شيء آخر في الوجود، ومن ثَمَّ فلا مصداقيّة أساسًا لما يقوله عقلٌ عبثيٌّ كهذا، ولا معنى لما يَستنتجه! فخير له أن يسكت عن عبثه القولي، وهذيانه الكتابي، ليريح ويستريح من تدبيج الكتب وادعاء الكشوفات الخارقة! إذ لماذا يستثني واحدٌ، كالقصيمي، من كل الكون- بما فيه من العبث واللا منطق- ما في رأسه هو؟ لسان حاله: كل ما في الكون عبثيٌّ، إلّا دماغي! لا، يا حبيبي، إن كان كلّ ما في الكون عبثًا، فأنت أوّل العابثين، وعقلك بلا عقل! إنه ببساطة يناقض عقله بعقله. والتفكير المنهجي يحتّم، إذن، أن وجود هذه الآلة الاستدلاليّة التي تسمَّى (العقل) تنفي جدواها حين تشكّ في السببيَّة، أمّا حين تشكّ في خالقها وفي حكمته، فهي تنفي وجودها رأسًا، وتنفي مخاطَبيها أيضًا، ولسان حالها، كما تقدّم: لستُ إلّا عبثًا من جملة العبث الكوني، فانصرفوا عن هذا الهراء الذي أقول! من حيث إن السؤال سيكون: لماذا لم يصمت القصيمي، إن كان حقًّا يؤمن بما يقول؟ فإيمانه بما يقول كان يقتضي منه أن يصمت، وإلّا فهوكاذب في إيمانه بمقولاته. وإن كان مؤمنًا بما يقول ومع ذلك يظلّ يحلّل ويعلّل ويستدلّ ولا يصمت، فهو كاذب في مقولاته ذاتها. وبذلك فإن تلك المآزق الذهنيّة لا تكتفي بإهانة نفسها، بل هي تتبذّل في ذلك غاية التبذّل حينما تهتف بالناس ليشاهدوا أو يسمعوا أو يقرؤوا شهادة الجنون على الجنون. أمّا إن هي زعمت أنها شهادة العقل على الجنون، فإنها ترتكب الكذب على جمهورها أيضًا، لتتجرَّد مع العقل عن الأخلاق!
إن آية وجود الله العظمى هي العقل، ولا ريب! فكيف تكون الآية دليلاً على عدم وجود المدلول عليه بها؟! ثمّ هب، جَدَلاً، أن العقل خدعة، والكون دميم، والجمال وهم، والسبب خرافة، والدِّين لُعبة، فما جدوى التحقيق حينئذ في هذا ومحاولة إثباته للذات والناس؟! ما جدوى الإيمان بهذا المنظور القاتل لكل أملٍ وكل نور، بحُجّة البحث عن الحقيقة والتخلص من الأوهام، على فرض إمكان ذلك؟ وما جدوى الدعوة إلى هذا البحث، والإلحاح في الدعوة إليه، إلا الإمعان في تدمير المرء نفسه وعقله ووجوده؛ من حيث إن الإيمان ضرورة إنسانيّة؛ حتى لقد قال (فولتير) في قصيدة، ترجمة عنوانها بالإنجليزيَّة: «Epistle to the author of the book: The Three Impostors»، أي: «رسالة إلى مؤلِّف الكتاب: إلى المنتحلين الثلاثة»: «لئن لم يكن الله موجودًا، لكان من الضروري أن نخترعه.» إنه ضرورة لتوازن الإنسان عقليًّا وروحيًّا، وإمداده بالطاقة الضروريّة للصبر والمواجهة. ضرورة لرفع المناعة الروحيّة والنفسيّة المكتسبة، التي هي نظيرة المناعة الصحيّة البدنيّة، وبدونه يصاب الإنسان بالإيدز الروحي والنفسي والعقلي، ولا محالة، وإن تظاهر بخلاف ذلك، والرعب ينخر في عظامه. مناعة تساعد الإنسان على خوض معركة الحياة، ومقاومة فيروساتها. ذلك أن الإنسان ليس حيوانًا، قصير الذاكرة ضيّق الخيال، وإلا لكان كالحيوان، لا يمرض نفسيًّا، ولا يقلق فكريًّا، ولا يُجَنّ. هل سمعتم بثورٍ مرض نفسيًّا، أو بحمار جُنّ، أو بديكٍ قلِقَ فكريًّا، أو أسد أصيب بلوثة؟! تلك الآفات الذهنيّة والعصبيّة والنفسيّة لا تقع للحيوان، إلاّ بسببٍ وبائيٍّ ظرفيٍّ، كجنون البقر مثلاً، لا لأزمات فرديّة، ذهنيّة أو نفسيّة. لماذا؟ ذلك لفقدان الحيوان تلك العوامل النفسيّة في الإنسان، وذلك السجلّ من الذاكرة، والطاقة في التخيّل والتصوّر والتفكير والتساؤل كما أن الإنسان في المقابل ليس حاسوبًا، أو إنسانًا آليًّا، بحيث يكون عقلًا آليًّا فقط، لا يشعر ولا ينفعل، ولكنه بين هذين: حيوان عاقل، روحيّ ومتخيّل. وبما أنه كذلك، تنشأ تهديداته الداخليّة باستمرار، منذ الطفولة حتى الشيخوخة وإلى الموت، نفسيّةً وفكريّةً وعقليّةً؛ متولِّدةً عن تراكمات من الضغوط المختلفة؛ فتعصف باستقراره، وقد تعصف بعقله ونفسه في بعض الحالات. ومن هنا تكون وظيفة الدِّين لعلاج ما قد يعتور الإنسان من أزمات، لطبيعته المشار إليها، ولبعث الأمن والطمنينة في نفسه، ولعقلنة الوجود. لأجل هذا يصبح مفعولُ صلاةٍ صادقة على صاحبها أعظم بكثير من مفعول مستشفى كامل في الطبّ النفسي. غير أن وظائف الفروض الدِّينية، والمواسم والشعائر، قد أُفسدت إفسادًا. بل ربّما وُظّفت بعكس ما هي له. فخطبة الجمعة، مثلًا، التي لها في الأصل وظيفة تنويرية وتغييرية، بوصفها بيانًا أسبوعيًّا عن شجون الأُمّة وشؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية، حُوّلت إلى منبرٍ إعلاميٍّ دعائيٍّ موجَّه، أو لاجترار مواعظ باردة، تجلب النوم. والحَجّ، الذي هو في الأصل بمثابة مؤتمرٍ إسلاميٍّ عالميٍّ، وبراءة إلى الله ورسوله- كما جاء بنصّ القرآن الكريم- تحوّل إلى مجرد لفٍّ ودوران، وتقبيل حجرٍ هنا ورمي آخر هناك!
على أن مردود الإيمان هو للإنسان نفسه، لا لله، تعالى الله الغنيُّ عن انتظار إيمان المؤمنين: «ما يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ، إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ، وَكَانَ اللَّـهُ شَاكِرًا عَلِيما.» (النساء: 147). ولذا، فمن الحماقة البشريّة أن يرفض الإنسان الجائع غذاءً مفيدًا لتشكّكه في مصدره؛ لأن المعيار ينبغي أن يكون حصول الثمرة المرجوّة، وقيام الفائدة الغذائية، بقطع النظر عن شجرة تلك الثمرة، وأصلها وفصلها، أو عن ضرورة البرهنة العلمية القاطعة على صحة نسبتها إلى جذرها المزعوم أو تربتها الأصلية، إلى آخر ما هنالك من تلك الأسئلة الفارغة. ولقد ثبت، بما لا يدع مجالًا للشكّ، أن الإيمان- أيّ إيمان- هو مفيد للإنسان، حافز له، مروٍ لوجدانه، مغذٍّ لمعنوياته، مقوٍّ لاستعداداته، عَوْنٌ له على الصمود في مواجهة الزوابع، الداخليّة قبل الخارجيّة؛ لأن معاناة الإنسان، كما أشرنا، تظلّ في أوارها داخليّة، وهزائمه الكبرى هي هزائمه النفسيّة، الداخليّة لا الخارجيّة.