(شرقيون في جنوب الجزيرة العربية). كنت سأعتبر هذا عنواناً عنصرياً، يقابله مثلاً عنوان (تهاميون في السرأة)، أو (حجازيون في نجد)، أو (نجديون في الأحساء)، فيتبدد هذا الانطباع، بمجرد الولوج في عالم رواية الكاتب الصديق الروائي علي الشدوي التي تحمل هذا العنوان. فالرواية التي تتخذ من مقهى على خط الجنوب، اكتسب شهرة بسبب قصيدة لشاعر شعبي (د. عبد الواحد الزهراني) عن خط الجنوب، فحركت مشاعر الجنوبيين، فصار مكاناً لها، وتتخذ من احتلال الكويت بداية التسعينيات زمناً لبداية هواجس الرواية، وليأتي الراوي من الزاوية التي يعبر عنها بصفه مباشرة، يحضر في أحيان بلغة (أنا، أو صديق الكتّاب) عارياً، ومتمدداً أفقياً بلا تنامٍ موضوعي في النص إلا من قلقه وهواجسه، وروح قلقة لا تهجع ولا تستكين.
ولكي أكون أكثر صراحة مع صديقي، فقد كنت أطمع في نص مغاير، ومن مثقف كبير بحجم وعي علي الشدوي، حينما يلج إلى هذا العالم الروائي، وأنا أقرأ له العمل الثاني، وأن يتخلص من شوائب أفكار الآخرين، ويطرح رؤيته الفنية بتلقائية وعفوية وبلا تعقيدات، ومنيت النفس وقد حرضني على قراءة الرواية، وتحدثنا عنها قبل صدورها في ملتقى الرواية بالباحة، أنه سيعمد إلى قراءة ردود أفعال شخوصه في سيرة (شرقي) كالقرعاوي مثلاً، ويعرف سكان المنطقة الجنوبية على مدى اتساعها سيرة هذا الإنسان، وكتابتها روائياً إحياء للذاكرة والتاريخ، ويمكن أن يضيف الخيال الروائي شيئاً عليها، وكشفاً لمدى التأثير الذي تركه الفقه الشرقي فيهم. والكاتب قد وضع الأضداد (شرقيون وجنوب) عنواناً للرواية، وربما كان يخطو في أقل الخطوط خطورة، محاذياً لما فعل الصديق يحيى أمقاسم في رواية ساق الغراب، وقد اقتدى به حتى في البعد (العنوان) الجغرافي، وهو الذي أهدى له الشدوي هذه الرواية، ولا أعرف بِمَ وكيف، ولِمَ جاءني طيف غريب؟ وتذكرت قصيدة (الجنوبي) للراحل الكبير الشاعر أمل دنقل، وهو الشاعر المعروف بتوظيف الأساطير في الديانات السماوية الثلاثة، لكنه في تلك القصيدة بالذات تجنب الإسقاط المذهبي بين الشمال والجنوب، وسعى لالتقاط المشاعر الإنسانية البحتة وتحولاتها، ولم أرغب في أن تسيطر على علي الشدوي (ذاكرة) وفكر الناقد، وتتمحور لغته بفنيتها حول الفكرة، ويدع للنص حرية الحركة العفوية في الفضاء، وبلا تقييد شخوصه برؤية جاهزة، خشية عليه وعلى النص من سوء فهم التلقي، ومحاولة تأويله في سياقات لا تخدم النص، وما أكثر المتربصين بالإبداع في هذا الزمن، الزمن الذي تفوح فيه رائحة العنصرية العرقية والمذهبية بكراهية مقيتة:
(لم يكن يعرف أن لا شيء يسعد المجتمع سوى العقل النقدي، لا الديني يسعده ولا السياسي كذلك..) ص 21
إحدى أهم الشخصيات أحمد بن ليلى بطل الرواية، وهو شخصية روائية جديرة بأنه سيبقى في الذاكرة. ولست أدري لِمَ ينسب الشدوي أحمد إلى أمه، مع ملاحظة أن حضور المرأة في الرواية يكاد يكون حضوراً هامشياً، ويكاد لا يذكر في الرواية إلا بكونها خلف الشباك، أو حينما تحضر أمه التي جاءت من تهامة، ليسمح للمدرس الأعزب بأن يستأجر بيتاً عائلياً في عمارة؟
(شرقيون في جنوب الجزيرة العربية) عنوان لرواية ينتمي إلى سلسلة عناوين مشابهة، تفرز وتشكلُ مستويات مجتمعية في نسيجها متباينة ومتعددة، تتضافر كلها لخلق روابط متشابكة، تتشكل في خطابها ما بين المكان وشخوص الرواية. أذكر محلياً رواية مشوقة قرأتها إلكترونياً، كانت بعنوان (جيزاني من سان فرانسيسكو) لكاتب مهاجر، ويعرف المتلقي على وجه الخصوص رواية (بنات الرياض) الشهيرة، التي تُرجمت إلى لغات العالم، وهي من الروايات التي يشخصُ العنوان مقدماً عالم الرواية وفضاءها. وتذكرُ عزيزي القارئ ما تشاء من الروايات التي يتم تشريح المعايير، وتصنيف الشخوص داخل النص بما يملي حاجتها، ويُسبغ عليهم ذلك بكرمٍ، سواء كان فرداً أو شريحة بشرية. ولا بد أن أستحضر أيضاً رائعة الكاتب اليمني الجنوبي الرائع المعروف بميله الأيديولوجي البارع محمد عبد الولي في رواية (يموتون غرباء)، وهي رواية تحكي سيرة مغترب يمني، وتربط بين فضاء شخوصها ومصائرهم. بيد أن علي الشدوي ما زال مأخوذاً في العنوان والفضاء بالغربة (شرقيون!)، ويبدو بحس جغرافي وكأنه لم يغادر بعد سماء إفريقياً. الرواية الثانية التي قرأتها له إذ يؤسس في فضائه الروائي لعالم قلق متوجس ومرتاب بين أضداد، ويظهر متجلياً في الشخوص الرئيسية في الرواية التي بين أيدينا (أبو سليمان وأبو طاهر + أحمد بن ليلى)، وهو ما يمكن تسميته بقلق المعرفة. وٍسأفصلُ في ذلك عند تناول المضمون، وبالذات فيما يخص بطل الرواية أحمد بن ليلى، وحكاية النسب لأمه، فكنت محقاً أيها التهامي الطيب المسالم الذي ألقى القدر الظرف في طريقه الرجل الجديد الذي أصبحه أحمد بن ليلى فيما رأى
المكان: سأفعل (فلاش باكـ) لما قد تجاوزته، وليت الرواية فعلت ما فعلتُ ولما خلت زمنياً من الاسترجاع، باستثناء ذاكرة القرية والحفر التاريخي المهم جداً، وحسبي الله على الصديق علي الشدوي، فقد صدني بداية وأجبرني اعتراضه في القراءة الأولى، لأقطف سطوراً مما ورد في الرواية عن الخط كما يلي:
(وتقع على الطريق الرئيسي الذي يربط الجنوب بالطائف، وهو طريق ذو مسار واحد وخطر، يخدم القرى والمدن الواقعة في الجنوب، وقد اكتسب شهرة كبيرة بعد أن نظم في مآسيه شاعر شعبي قصيدة حركت مواجع الجنوبيين) ص19 وأدعُ لذاكرة أي من الجنوبيين بالذات، هل يمكن تأويل، أو يخطر على بال أي أحد هنا - خطاً غير خط الجنوب، وهل ستحضر إلى ذاكرتهم قصيدة حركت مواجع الجنوبيين غير قصيدة خط الجنوب للشاعر الدكتور عبد الواحد الزهراني، أم أن هناك خطاً آخر، وشاعراً آخر، ورأياً آخر للصديق العزيز الأستاذ/ علي الشدوي؟
الضمائر وزاوية الحكي: الإشكالية الكبرى في تحديد زاوية الحكي، ومعركة الرواية في الالتباس بين الراوي والمروي عنه، وأعزو تداول الغياب والظهور المفاجئ إلى سيطرة الفكرة المركزية، واستبدادها في الحكي، والواقع بالتنوع الذي لا بد أن يأخذ عدة مستويات في الكتابة الروائية، فيصبح ما بين يدي علي الشدوي أسيراً لمسار أحادي، وسألتقط نماذج قليلة من كثير للدلالة على ما أقول:
- وصعدت (أنا) من إحدى قرى تهامة. ص19
- منذ ذلك الضحى الذي حكى (لي) فيه خبر جسر الخليج، تكون عندي انطباعاً أن أبا سليمان، ليس شريراً إلى الحد الذي تصوره الآخرون. ص34
- سأوجز هنا ما هو متعلق بـ أبي ظاهر، وسأتجنب ما ترتب على مغادرة اليمنيين كحالات الحب التي بترت بين يمنيات ومواطنين كما تخيل عبده خال في رواية ( نباح). أو العكس كحالات بين سعوديات ويمنيين لم يتخيله أحدٌ (سواي). ص 36
الفضاء الروائي عالم حميم إلى الكاتب، الذاكرة تفيض بمخزنها المعرفي، وتشكلُ عالمها الإنساني في مستويات، وتمتزج في (فعل) بطل الرواية أحمد بن ليلى وذاكرة ( الضمائر) في لغة الراوي أعلاه، فتأتي بالروائي عبده خال في (حضور) موضوعي عبر رواية نباح، وسأوجل الحديث في كتابة متداعية عن تماس روايتنا (موضوعياً) مع رواية ساق الغراب، فلهذه الرواية أفقها الخاص وخصوصيتها المتميزة.. فلا تجزع ولا تقطع عزيزي القارئ، إذا تأخرت في تلمس أجوائها وجمالياتها وفلسفة خطابها، وسأبدأ تتبعها في القراءة القادمة بداية، واستحضار ذاكرة الأساطير الجنوبية التي من الممكن أنها تؤذي، وتشكل تلازماً مأزوماً عند الآخر، وسيأتي هذا في ذاكرة الرواية الموضوعية وربما الفنية، ولا غرو فقد استحضرت ذاكرتي في رواية (ثلاثية المكتوب مرة أخرى) الصديق الروائي عبده خال بالاسم، ولم يكن قد كتب الرواية بعد. ولكن ذاكرة (رواية الروائيين) تنبأت بالفعل الكتابي، وذكرت ذلك الأستاذة أسماء الزهراني في قراءة للرواية، واستنكر ذلك الصديق الدكتور حسين المناصرة في ملتقى الرواية في الباحة، واعتبر أن رواية (الغيمة الرصاصية) للشاعر الأستاذ الكبير/ علي الدميني هي التي تحملُ ذات المعنى، وحينها لم أشأ أن أقول للدكتور المناصرة، بأنه لم يقرأ الروايتين..
تنوع التراكم الروائي، يفتح آفاقاً ورؤى جديدة، وأحسب أن القاسم المشترك في روايتنا المحلية، يراوح إذا استثني نتاج الكبيرة الروائية رجاء عالم بين معضلتين، هما حروب الخليج المتعاقبة/ وظاهرة الصحوة الدينية، ورصد التحولات والذيول في حياتنا (الواقعية) المجتمعية، وقد فرضت حضورها واستبدادها وسيادتها على ذاكرة الحكي المحلي، وآمل أن لا تفسد قراءة خاطئة لمتلق، يجهل أبسط أساسيات التأويل الروائي لهذه الرواية المبدعة، لأن عنوانها استفزازي في نظر البعض الذين سيتلقونه بسطحية، وأحسب كما ظهر أن (حضور) رواية نباح جاء للدلالة هنا - وللإيحاء عن حالة دينية وربما سياسية، بينما رواية (نباح) تتحدث عن مشاعر إنسانية بحتة، فرقت حروب الخليج بين قلبيهما البريئين، وقد نشأت في جدة بين مواطن تزوج فتاة يمنية، ففرضت الرواية وفصولها إلى تتبع بطلة النص التي رحلت مع من رحلوا، لتنتهي محجبة في صنعاء وعاهرة في عدن.
** ** **
* يتبع بإرادة الله