تعلّمنا تجارب التاريخ أن الفتن التي دمّرت المجتمعات اعتمدت على ثالوث رأس الشيطان وهي»الظلم والتطرف والفساد» ومتى ما شاع هذا الثالوث في مجتمع أهلكها ولو بعد حين، لكن لا أحد يتعلم من التاريخ.
ويجتمع ذلك الثالوث في «التفاضل»و»التمييز» وهما من «خطوات الشيطان» لأنهما في مسارهما السلبي يدعمان الظلم والتطرف والفساد، ولكل «مفهوم جانب مظلم يختبئ فيه وجه الشيطان» متى ما انحرف عن مساره المستقيم دخل معبد ذلك»الثالوث».
يُبنى التفاضل الإيجابي على قيمة القدرة، وتلك قاعدة وجوبية تُشّرع توزيع الاستحقاقات، ويبنى»التمييز الإيجابي» على دعم الأقليات لكسر عسكرة الاعتقاد وفاشية الأحادية واغتيال المٌختلِف. في حين أن «التفاضل والتمييز السلبيين « يُبنيان على قاعدة «أولو القربى والقبيلة أولى بالمعروف» وأن أصل الطبيعة يسبق جودة المكتسب مما يعني تجميدا «لطاقة المقتدِر والمُنجِز والحيوي» وهي طاقة ما تلبث مع طول تحزينها أن تزداد قوة وخطورة لأنها مؤهلة لصناعة الشيطان/ وبالضغط المستمر تنفجر وتدمر كل شيء.
لكن المسالة لا تبدو بهذه السهولة أقصد «كيفية تشريع التفاضل والتمييز في مسارهما الإيجابي لترسيخ عدالة الاستحقاق الآمن، أقول إن المسألة لا تبدو بهذه السهولة؛ لأن ثمة أمور متداخلة أوسطها يعقد أولها وآخرها يفسد أوسطها، أمور نفيها يسبق إثباتها وتصوّرها ينتج قانونها وأنساقها تُشرع استحقاقاتها، أمور حماسها سابق لعقلها ووجدانها يقفز فوق تقديرها، أمور رأس إشكاليتها «غياب منطق القدرة» و»منطق الفاعلية» البريء من تهمة ضرورة ولزومية أصل الطبيعة.
إن الوقوف أمام تعريف ضامن لجودة التفاضل والتمييز الإيجابيين لا يسلم من تداخل مفاهيمي بين كل من الفئوية والحزبية ووالتحيز والائتلاف؛ لأن تلك المفاهيم غالبا من تقترب من نطاق التفاضل والتمييز وأحيانا لا يخلو الأمر من تماس يُغمض مسار المصطلحين لكونهما طرفين في مسوغ أو حاصل أو أثر أو مصدر أو فاعل. والتفاضل مثل التمييز يجمعهما جذر القياس وحدّه، فهما من المفاهيم التي يعتمد بناؤه التكويني على قيد العليّة؛ بمعنى أنها تّدرك حسب الوسيط المروّج لدلالته، ولذلك فنحن أمام نوعين من العليّة «العليّة الغائية» والعليّة الوظيفية» ويتحكم نوع العليّة في عنوان الصفة التي يكتسبها التفاضل، فالعليّة الغائية ارتبطت «بالتفاضل السلبي»، والعليّة الوظيفية ارتبطت «بالتفاضل الإيجابي».
والفرق بينهما أن «العلية الغائية» غالبا ما تعتمد على «نوع الفئة « مصدر التفاضل، والنوعية «آلة التزكيّة» وهي تتجاوز منطق الفاعلية والاقتران الإنجازي، ويضيّع في ظلها الكفاءة وتكافؤ الفرص والتحفيز المستثمر لقيمة الطاقة والتنمية البشرية؛ إنها أشبه بكرة الثلج التي تظل تتضخم حتى تُصبح شيطان فتنة، وبذلك فنحن أمام مارد كرة الثلج القابل للتضخّم ومارد الطاقة القابل للانفجار وكليهما مصدر فتنة ومصدر تدمير وإن ظهرتا قوة صامتة. في حين أن «العليّة الوظيفية» لا تعتمد على «نوع الفئة» إنما «دليل الفاعلية» وما يقترن بها أو من خلالها من فائدة إنتاجية أو حاصل هو مُشجع على الإنجاز، وهي أيضا تراعي التوزيع الاستحقاقي الآمن للعدالة الاجتماعية والمساواة المعتمدة على «نوع الإنتاج وفاعليته». وكلا العليتين يدخلان آليات التبليغ والتمثيل في مسارهما المختلف.
كما أن «العلية الغائية» هي داعمة «للتمييز السلبي»، وهي تقوم على أن الفاعلية مرتبطة بأصل الطبيعة لا مكتسب المعرفة والقدرة وبذلك تُخرج المرأة من معادلة الفاعلية والإنجاز بسبب أصل طبيعتها»الضعف والخطيئة».
كما تُخرج الأقليات من معادلة الاستحقاق الآمن للفاعلية والإنجاز باعتبار أن الأيدلوجية الطائفية أو المذهبية كما يظن مّشرّع التمييز السلبي هي الضامن الآمن لنزاهة الفاعلية وأمانة الإنجاز، وكلما تشابه الفرد أو الفئة أو تطابقا مع تلك الأيدلوجية سواء بالوراثة أو التبعية أو المناصرة زادت جديته في الفاعلية والإنجاز، وكلما -أيضا في ظن مُشرّع التمييز السلبي- كان الفرد أو الفئة خارج تلك الأيدلوجية بالاختلاف أو الرفض أو الاعتراض، أصبح مصدرا لشك في نزاهة فاعليته ومقصدها وأمانة إنجازه وهدفه ولذلك فالإقصاء من خلال التمييز السلبي هو ضابط الأمن لحماية أيديولوجيته.
وهذه فكرة غير أنها داعمة للتمييز السلبي هي أيضا مخالفة لمعايير المجتمع الحديث التي تُبنى أسسه الأيدلوجية على مفهوم المواطنة وواجباتها وحقوقها، وهي بذلك تتبنى المشترك في صناعة ثقافة العقل الاجتماعي، متجنبة التعددية في تأسيس المشترك الأيدلوجي، وبذلك فشروط تكافؤ فرص الفاعلية والإنجاز تطبق على كل «مواطن» يملك قدرة واستطاعة على صناعة الإنجاز دون قيد الأيدلوجية سواء بالتبعية المذهبية أو الطائفية أو الفئوية أو الجنس.
هل التفاضل والتمييز بهذين المسار هو مفهومان إجرائيان بحت؟
كل مفهوم هو حامل للإجرائية، لكن اختلاف درجة الإجرائية هي التي تختلف، وهذا الاختلاف يعود إلى كلما اقترب المفهوم من « حقوق سلوك الإنسان ومشتقاته « تركزّت الإجرائية، وكلما ابتعد عن سلوك الإنسان واقترب من «أدبيات فكر الإنسان و مشتقاته» تخففت الإجرائية، بمعنى أن المفاهيم المادية والعلمية هي التي تتركز فيها الإجرائية والمفاهيم المبنية على المنطق والاستقصاء هي التي يُخفف فيها الإجرائية وتنحصر في الجانب البرهاني.
والتفاضل والتمييز في مسارهما يُصنفان ضمن المفاهيم المادية التي يتم تقويهما ومحاسبتهما من خلال التطبيق الآمن أو المتعسف للإجرائية المبني من خلالها مفهومهما.
إن الجذر المرتبط بتكوين ماهية التفاضل والتمييز الإيجابيين في حالة وجوده وتحويل مسارهما إلى سلبيين في حالة غيابه بالإقصاء أو الفساد هو «القدرة والاستطاعة».
وبذلك « فالتفاضل والتمييز» لا يدخلان في باب الأحكام إنما في باب المعاني كما أنهما ليسا مقصورين على شدّة الجهد بل دالا على وُسِع الإمكانية، وهو ما يعني أننا أمام إشكالية خاصة «بالمكتسب» وإن سعى البعض إلى تعليقها بأصل الطبيعية ومقتضى الضرورة ولزومية الفائدة العامة. وفي ضوء ذلك «فالقدرة والاستطاعة» وموقف العقل العرفي منهما هما المدخل الرئيس للحكم على التفاضل والتمييز وحركة مسارهما.
هل القدرة والاستطاعة مرتبطتان بأصل الطبيعة والوراثة أم أنهما مكتسبتان بأصل البيئة والعلم والمعرفة والثقافة؟.
القاعدة العامة هاهنا أن «كل سلوك خاضع للتفاوت والترقي والتغيير» هو منسوب للمكتسب لا للأصل الطبيعة، وبذلك فأصل الطبيعة لا يتحكم في «مصير القدرة والاستطاعة» سواء بإدعاء ملكيّتها لجنس دون آخر أو فئة دون أخرى أو طائفة دون أخرى.
فنحن نستطيع أن نربي تلك القدرة والاستطاعة ونفوّقها من خلال تجهيزات وإمكانيات وتسويقات مقصودة أو يمكن تسميتها «صناعة القدرة والاستطاعة» أو «صناعة التنمية البشرية».
إن هذه الصناعة ليست اختيارية بالنسبة للمجتمع إنما هي إجبارية، وتجاهل المجتمع أهمية تبني تلك الصناعة سيتيح الفرصة لطرف آخر إلى استغلال تلك القدرة والاستطاعة لصناعة الشيطان لتنضم إلى كرة الثلج والطاقة القابلة للانفجار، فالكمون لا يمنع تمدد القوة الصامتة أو إلغائها أو إبطالها، ولذلك تظل القوة الصامتة قنبلة فتنة مؤجلة حتى حين من الدهر.
عندما تتجاوز إستراتيجية التفاضل والتمييز ما يُشرّع التكامل يختل ميزان العدالة الاجتماعية لأنها تعبث في معادلة التكامل من خلال تجميع صلاحيات التأثير والفاعلية في نطاق محدود من الفواعل المعلومة بالفئوية الخاصة لا المُقدّرة بوسِع الإمكانية.
وبذلك يتحول التفاضل والتمييز في مسارهما السلبي إلى سلطة مركزية تضر بدورها على طاقة فواعل سواء المَضمنة للإمكانية أو المُعبرة عن خارطة التكامل التي على المفترض أن تتوزع بنفس مستوى الطاقة و تأثير التفاضل وفاعليته لتحصيل إيجابية خطية ضامنة لاستحقاقات آمنة ومحصِنة من غلبة الفئوية، وعم ثالوث رأس الشيطان الظلم والتطرف والفساد.
وكلما مال التفاضل والتمييز إلى تقدير فاعلية الإمكانية تقلصت سلبيتهما وكلما توسع ميله إلى تقدير مبني على أصل الطبيعة ومقتضى الضرورة ولزومية مالا يلزم غلبت الفئوية غلبة يتوسع معه الصراع من أجل العدالة الاجتماعية وغياب الكفاءة كمعيار للاختيار والتفاضل في حضور لأولوية النسب والقرابة والرحِم والأيدلوجية الطائفية والمذهبية.
وارتباط التفاضل والتمييز في مسارهما السلبي بالأيدلوجية الخاصة أو الحاكمة وهو ارتباط يعني التجاوز بالقفز فوق «قيمة القدرة» وإحلال «نوع الفئة» كمعادل للقدرة محلها، كما أن ذلك الارتباط غالبا يبني عن طريق التعوّد وهو ما يدخله نطاق التوارث وبذلك تصبح الفئوية بدورها مؤشرا على أزمة «منطق القدرة» في العقل الثقافي للفرد والجماعة.
وإشكالية التفاضل السلبي ليست قاصرة على المجتمعات الدينية بل هي أيضا حاضرة في المجتمعات العلمانية ومعايير الإشكالية مختلفة في المجتمعين اختلاف مرجعه في المجتمعات العلمانية إلى وجود وثائق تكافح التفاضل السلبي عبر قوانين ضامنة للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ومحاربة للتمييز العرقي والعنصري والجنسي، واختلاف مرجعه في المجتمعات الدينية هيمنة الإيديولوجية الحاكمة للعقل الاجتماعي.
والتعريف الأوليّ للقدرة هو»إمكانية صناعة الإنجاز»، وبذلك فنحن أمام ثلاثة ضوابط للقدرة أو ما يشكل خلفية القدرة وهي الإمكانية والصناعة والإنجاز، وقد يعتبر البعض أن «صناعة الإنجاز» ضابط لا ضابطان، وحسبما أعتقد أنهما ضابطان فأولهما يدخل في نطاق الكيفية وثانيهما يدخل في نطاق الحاصلية، وما يختلف جذرهما لا يتساويان في التصنيف.
والاتفاق على التعريف الأولي للقدرة يطرح أمامنا أزمة المعنى بين الكائنية بضروراتها والمُفترض سواء من خلال قياس الكامن أو المتوقع للمعنى ونوع التمثيل؛ أي كيفية انتقال المعيار من أصل المعنى إلى دليل الإجراء.
وبذلك فالقدرة عملية حسابية مبرمجة خاضعة لإحداثيات الاستطاعة وتتوسع العلاقة الافتراضية بين القدرة القوة عبر الذات والاستطاعة القوة عبر الإمكانية توسعا أفقيا مما يجعلهما مستوى اتحاد كقوة للتأثر والتأثير، وتجاوزها ذلك التوصيف يخرجها إلى معنى «صدقية التصور» وهو خروج يتلاعب بإحداثيات القدرة والاستطاعة، ولأن التصور في ذاته دافع لتشكيل معتقد إجرائي وكونه يعتمد على خاصية الدافع فسعة الانفعالية المبني من خلالها تفوق سعة التعقل، ولذلك يُعدّ «التصور» مصدرا من مصادر فلسفة الفتنة.