انتهينا في المقالة السابقة من الحديث عن أهم (موضوعات الفلسفة) وسنختم هذه السلسلة اليوم بتناول أبرز خصائصها، أي أبرز خصائص عملية التفلسف.
تمتاز الفلسفة «التفكير الفلسفي» بخصائص عديدة أهمها -في نظري- ما يلي:
1- ديمومة الاستفهامات المتواصلة والإلحاح في التساؤلات:
السؤال في الفلسفة أهم من الإجابة.. هذا ما قرره كثير من الفلاسفة، وعن هذا يقول أحد عمالقة الفلسفة الألمانية في القرن العشرين كارل ياسبيرز: «الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة، وكل جواب يصبح بدوره سؤالاً جديدا».
وهذا عندي هو السداد الذي لا غبار عليه، بل الذي لا يمكن أن يكون عليه غبار أبدًا؛ لأني أرى أن الفيلسوف المميز هو الذي يسير -أثناء التفلسف- على الطرق والأساليب المميزة السليمة المثمرة المحققة للأهداف المنشودة، وعلى رأس تلك الطرق -في رأيي- البدء بمناقشة الفكرة بتساؤلات تتشعب عنها تساؤلات أكثر، تتفرع عنها تساؤلات أكثر وأكثر وأكبر وأبهر، ويختم المتفلسف الفكرة باستفهامات لا تنتهي أيضًا.. وبين استفهامات البداية وتساؤلات النهاية يطرح عددًا من التساؤلات والاستفهامات الأخرى؛ ولكنه بالطبع لابد أن يطرح مع ذلك، أو أثناء ذلك -أي أثناء مناقشة الموضوع- إجاباته التي تمثل رؤاه تجاه القضايا التي يناقشها وتعكس موقفه الفكري منها بوضوح.. والإبداع الكبير يتحقق عندما تتحوّل إجاباته أيضًا إلى أسئلة جديدة.
ولا يعني هذا أن الإكثار من طرح الأسئلة يكفي لجعل الإنسان فيلسوفًا، بل لابد أن يكون طرح الأسئلة -وغير الأسئلة- بالآلية التي تجعله فيلسوفًا، فما هي هذه الآلية؟ والإجابة هي أن الإجابة عن هذا السؤال استغرقتْ غالب محتوى هذه السلسلة.
2- الشك والنقد المستمران:
إن الفيلسوف الجيّد المتمكن يرتاب أكثر من غيره، ويطيل التدقيق والتشكيك والاحتياط ووضع الاحتمالات الكثيرة، قبل القطع والتسليم بصحة الشيء من عدمها.. إنه لا يجزم إلا قليلا، وإذا جزم فإنه لا يتوقف عند هذا الجزم، ولا يغلق الأبواب أمام الاحتمالات والآراء والاجتهادات والتفسيرات الأخرى، بل ينتظر على أحرّ من الجمر ظهور معلومة جديدة تنسف معلومة سابقة اقتنع بها، أو تُنافسها في القوة، أو تفتح له بابًا جديدًا للتفكير والنظر إلى الموضوع بطريقة أخرى مختلفة عن نظرته السابقة.
وهو أيضًا ناقدٌ لا تنام ملكته النقديّة أبدًا، فهو يعيد النظر دائمًا وباستمرار في كل الأفكار والعادات والأعراف والقضايا والقيم والموروثات المختلفة القديمة في كل المواضيع، خاصة السائد المنتشر منها.. يعيد النظر مرة ومرة وألف مرّة وكرّة، حتى يصل إلى الموقف الفكري الأنسب والحكم العقلي الأفضل.
3- الدهشات والتعجُّبات المتتابعة:
تندهش عقولُ عامة الناس عادة من الأشياء الغريبة المبهرة المخالفة للمألوف المعتاد أو المتوقع.. أما عقول الفلاسفة، فهي تشترك مع عقول غيرهم في هذا الاندهاش؛ ولكنهم لم يصبحوا فلاسفة بسبب تلك الدهشات المشتركة، بل بسبب دهشاتهم الأخرى المختلفة المميزة عن بقية الدهشات!.
وإذا سلّمنا -وقد سلّمتُ- بأن الدهشة هي أول بواعث التفلسف، كما نقلنا عن أرسطو وغيره.. إذا سلّمتم بما سلمتُ به، فلا شك أن استمرار الدهشات وإطالة التأملات في المُدهِشات، يجعل عقل الإنسان يتّجه نحو التفلسف في محاولة لتفسير ما يدهشه، ومع استمرار المحاولات ونضجها وتراكم خبرات ومعارف المحاول يصبح -أحيانًا- إذا أتقن ما أتقنه الفلاسفة فيلسوفًا مثلهم.
4- الانتقائية أو الاختيارية:
وهذه الخاصيّة في الحقيقة من إضافتي، ولا أدري هل سبقني أحدٌ إليها أم لا؟ وباب النقاش والرد مفتوح ومكفول لمن لم يقتنع أنها خاصيّة من خصائص التفكير الفلسفي.
لا يوجد فيلسوف يهتم بكل شيء، أي لا يوجد -في علمي- فيلسوف أو متخصص في الفلسفة قال أو ظهر من نتاجه أنه يتعمّق في جميع المباحث والمسائل والموضوعات والقضايا والمجالات، بل لا أعتقد أن أحدًا يستطيع ذلك.
الفلسفة تختلف عن غيرها، فقد نجد نحويًا يهتم بكل مواضيع النحو مثلا، وقد نجد فقيهًا يحيط بغالب الأحكام الشرعيّة، وقد نجد عالمًا -في أي مجال- يسيطر على كل نواحي تخصصه.. أما الفلسفة، فليس بمقدور أحد أن يحيط بكل قضاياها ومسائلها ومواضيعها ومجالاتها بتفصيل ودقة كاملة؛ لأن الفلاسفة خاضوا وتعمقوا وأبدعوا في التفلسف في كلِّ شيء..
إن الواحد منهم -ببساطة- يتفلسف في أيِّ شيء يختاره في هذه الحياة وما خلفها وما قبلها وما بعدها.. يتفلسف -حسب مزاجه ورغباته ودوافعه وظروفه وغيرها- في كلِّ الموضوعات بلا استثناء، فهل يستطيع أحد الإحاطة بكل شيء، أو الحديث عن كلِّ شيء؟!
نعم، هناك فلاسفة خاضوا في كثير من المواضيع، وتفوقوا على زملائهم في عدد المجالات والموضوعات والقضايا والأفكار والنقاط والأشياء التي تفلسفوا حولها باقتدار وتوسّع، ولكن الفيلسوف في النهاية يختار وينتقي قليلا أو كثيرًا من المواضيع التي تناسبه وتهمه وتعجبه ويميل إلى التفلسف فيها، فيناقشها بإسهاب، ويعطيها من الوقت والجهد أكثر من غيرها من الموضوعات الخارجة عن دائرة اهتمامه وميوله وتفضيلاته.
وكل ما سبق من كلام في هذه الخاصيّة، لا يناقض –في رأيي- ما قرره كثير من الفلاسفة بصيغ مختلفة، مفادها أن من أهم غايات الفلسفة الوصول إلى النظرة الكبرى الضخمة العظيمة الشاملة الكليّة العميقة المترابطة، للإنسان وللحياة كلّها والكون وكل ما فيه.. لا تناقض أبدًا ولا تعارض؛ لأن محب الحكمة الراغب في الفلسفة يستطيع تكوين تلك النظرة أو الصورة الشاملة الكلية الخاصة به، من خلال المناقشة والتأمل والتفلسف والجدل والحوار الفلسفي في المواضيع والقضايا والمسائل والنقاط التي يرى -بعقله الفطن- أنها أعمدة قيام وتكوين تلك النظرة الواسعة العامة!.
ومن تلك الأعمدة ما قد يصح اعتبارها أعمدة كبيرة رئيسية؛ وما قد يصح وصفها بالأعمدة الصغيرة أو المتوسطة، حسب اختلاف القناعات ووجهات النظر.. مع ضرورة الانتباه إلى أن قولي «أعمدة» لا يستلزم بالضرورة قلّتها، فقد تصل أعداد المجالات والموضوعات والقضايا التي ينشغل بها المشغول بالفلسفة إلى أرقام كبيرة جدًا، ويتفاوت أهل الفلسفة في ذلك حسب قدراتهم وإمكاناتهم ودوافعهم.
5- العمومية والشمولية والكلية:
الفلسفة لا تهتم كثيرًا بالحوادث الفردية والحالات المحدودة أو الشخصية أو الشاذة أو النادرة؛ لأنها بحث وتأمل شامل كامل عميق في ماهيّات الأشياء وأصولها وغاياتها وعللها وعلاقة بعضها ببعض، بهدف تكوين نظرة عامة كليّة، وهذا ما أشرتُ إليه بالتفصيل في المقالة الثانية، التي تناولتْ دلائل مصطلح «الفلسفة»، فالفلسفة تنشغل بالكليات والعموميات لا بالجزئيات والخصوصيات، ومن أراد الاستزادة في هذه الخاصيّة المهمّة، فبإمكانه العودة للجزء الثاني من هذه السلسلة، أو البحث في غيرها، وسيجد كثيرًا من المراجع الأعمق والأكمل.
6- النسقيّة والتجريديّة والحياديّة:
وقد جمعتُ هذه الخصائص مع بعضها، لوجود قاسم مشترك لها عندي، لم أستطع تسميته بدقة، ربما يكون نضجًا أنضج من النضج المعروف أو عدلاً أكمل من العدل.. هو: ( نضج - عدل تام - إنصاف نادر- رقي - مصداقية - جديّة حقيقية) أو كما تريدون وتختارون من النعوت والتسميات لهذا القاسم الذي يجمع هذه الخصائص، إن اقتنعتم بوجوده أصلاً!.
أما النسقية فتظهر من زاويتين: الأولى: نسقيتها هي؛ أي نسقية الفلسفة، من خلال إتقان تنظيم وتصنيف وترتيب القضايا والموضوعات والمشكلات والأفكار الفلسفيّة التي يهتم بها الفيلسوف.
والثانية: تناسقه أو اتساقه هو مع ذاته ومع غيره من الناس والكائنات والأشياء؛ أي تناسق الفيلسوف أو المتفلسف أو المختص أو المحب للفلسفة، فهو في حالة هروب وفرار دائمين من الازدواجية والدوغمائية والعنادية عند التفكير في أية نقطة.. إنه يجب أن يهرب من ذلك كما يهرب الإنسان من الحيوان المفترس؛ فالتناقض والتعصّب والمكابرة وغيرها من مرادفاتها وشبيهاتها لا تليق بأمثاله الذين اختاروا هذا الميدان الجليل، وهذا الفن الراقي العريق؛ وقد ذكرنا في بداية هذه السلسلة أن الفلسفة هي أمّ العلوم، ولها شرف الرئاسة عليها، كما قرر الفلاسفة الأوائل بالحجج المقنعة.
وأمّا التجريدية، فأنظرُ إليها أيضًا من جهتين: الأولى: العودة بكل كلمة نستخدمها -أثناء عملية التفلسف في أي موضوع- إلى مدلولها الأول النقي الحرِّ الخالي من الشوائب إن صح التعبير؛ فالإنسان عندما يسمع أو تخطر على باله كلمة يفهمها وفق ما هو راسخ في ذهنه، أي وفق صورة معناها الذي حُفر وانطبع وتكرّس في عقله بشكل معيّنٍ مع الوقت، بناء على ما مرَّ به في حياته من مواقف وأحداث واطلاعات لها علاقة بتلك الكلمة، ولذلك تختلف معاني الكلمات عند الناس.
أما الفلاسفة فهم كغيرهم من البشر مرّوا بتجارب ومشاهدات وتأثروا بعوامل الحياة المختلفة، ومن أهمها هنا مصادر التلقي والمعرفة؛ ولكن سرّ تميزهم يكمن في القدرة على التخلص من آثار ذلك كله أثناء عملية التفلسف، فهم يجتهدون وينجحون غالبًا في تجريد المفردة أو اللفظة المستخدمة وتعريتها من كلِّ شيء والعودة بها إلى جذورها الأولى أو الأقرب للصواب.. وهذه النقطة يصعب الإسهاب في شرحها الآن للمبتدئين المستهدفين.
والثانية: تجريد النفس، أي أن يقوم الفيلسوف بتجريد ذاته من ميوله النفسي ونزعاته الخاصة ومصالحه الشخصية وما يدخل في حكم ذلك، ومن المزاجية والأهواء والرغبات والتعصّبات والعصبيات بمختلف أشكالها، عند الحديث أو الكتابة للناس؛ ليتمكن من طرح رؤيته -حول أي موضوع- بكل مصداقية وجدّية ورقي وجمال.
وأما الحياديّة، فواضحة ولا أعتقد أنها تحتاج إلى كثير شرح، فإذا كنا نطالب الناس عامة، وخاصة الباحثين وأصحاب المهن والتخصصات العلمية والمعرفية الهامة بالحيادية دائمًا وأبدًا في كثير من شؤونهم وتوجهاتهم ومجا لاتهم واهتماماتهم.. إذا كنّا نطالبهم بالحياد والتزام الحيادية باستمرار، فلا شك أن مطالبة محبي الحكمة الفلاسفة بذلك من باب أولى.
7- الحزم المنطقي:
والمقصد هو التصاعد التدريجي المترابط في طرح وسرد الأفكار، حتى الوصول إلى قمة ما يريد أن يصل الطارح المتفلسف إليه، ويظهر ذلك في امتلاك القدرة والمهارة في الانتقال من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المركب، ومن المعلوم إلى المجهول.. ثم استنباط النتائج واستخراجها في النهاية وتلخيصها قدر الإمكان في قوالب منطقية موجزة، مع الدّقة في الاستدلال والقوة في إيراد البراهين العقلية المقنعة.
8- الإنسانية:
حين تحدثنا عن مجالات الفلسفة الرئيسية في المقالة قبل السابقة، ذكرنا أنها ثلاثة مجالات:
1- الفلسفة الطبيعية
2- فلسفة ما وراء المادة أو «ما بعد الطبيعة».
3- مواضيع أخرى كثيرة تدور حول الإنسان وتنتهي فيه غالبًا.
وفي الحقيقة ليس الثالث فقط هو الذي يلامس الإنسان، فلو أطلنا التأمل في كل هذه المجالات والموضوعات وما يتفرّع عنها، فإننا سنجد كلَّ مجالات الفلسفة ومواضيعها في النهاية تنتهي إلى خدمة الإنسان بشكل أو بآخر، وذلك عبر التعمق فيه من خلال دراسة طبيعته وبدايته ونهايته ودوره في الوجود من جهة، وعبر فهم علاقاته مع غيره من الكائنات، وفهم علاقته بنفسه وغيره من الناس قبل ذلك، وعبر استيعاب علاقاته أيضًا مع الله والكون ومع كل ما يحيط به.
إن الفلسفة تأمل عقلي صادق من زاوية عامة كلية لا خاصة ولا جزئية، سعيًا لفك الألغاز المحيرة للإنسان، وحل المشكلات التي تنغص على الإنسان حياته مهما كان نوعها، والإجابة عن التساؤلات المؤرقة للإنسان أيضًا على مختلف الأصعدة.
للفلسفة رسالة إنسانية سامية، تتمثل في الاهتمام بقيمة الإنسان وكرامته وحريته في أقواله وأفعاله وقناعاته وآرائه قبل أي شيء آخر.. وفي هذا يقول فولتير: «قد أختلف معك في الرأي؛ ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في التعبير عن رأيك».
لقد اختصر هيجل أيضًا علاقة الفلسفة بالإنسان بقوله الموجز الجميل الذي اخترته ليكون مسك ختام هذه السلسلة: « إن الدفاع عن الفلسفة هو دفاع عن الإنسان».
وأشير في ختام سلسلتي المتواضعة إلى أن كلّ ما طُرح فيها ليس إلا قطرة من بحر الفلسفة والفلاسفة الذي لا ساحل له.. إنه ليس إلا محاولة بسيطة لتعريف الناس في بلادنا بالفلسفة، التي حُرموا من دراستها في المدارس والجامعات السعودية للأسف الشديد، كما وضّحت في مقالتي الأولى الموسومة بـ «لماذا حُرمنا من دراسة الفلسفة؟» وهي المقالة التي نتجتْ عنها هذه السلسلة.