في الواقع اختزلت الكثير من التفاصيل الطويلة في آليات ونظم الدولة في مفهومها الحديث، وذلك لأن تركيزي على الجانب الليبرالي، في الدَّولة الحديثة، فأرجو من الأخوات والإخوة، ألا يعتبوا علي في هذا العرض الخاطف لمفهوم «الدولة الحديثة».
لتذكير القارئ: هذه المقالة هي عطفًا على مقالة سابقة في «المجلة الثقافية» في عددها 434- وتاريخ 12-4-2014م.
بداية، أحب أن أشير إلى نقطة، وهي أن هناك كتابات تطرح الليبرالية على جانبها الفلسفي، فكل ما نقرؤه هو فلسفة الفكر الليبرالي، وليس الليبرالية في جانبها العملي والتطبيقي؟ فيتم اختزالها كـ»نظرية» لـ»إدارة المجتمع»، إلى أطروحاتها الفلسفية وإشكالاتها في السياق الأوروبي بشكل خاص.. فهذه الإشكاليات، لا تبرز ولا تعني شيئًا أبدًا، لمن لم يصل إلى ممارستها ولم يعشها على أرض واقعه الاجتماعي.
فكون الكاتب، يناقش مشكلات ومثالب فكر سياسي أو اجتماعي، وهو بالأساس بعيدًا عن حيثياته، وعن مشكلاته، التي تبرز أثناء ممارسته في الواقع الاجتماعي، فهذه شيء يدل على اختزاله للفكر بكثير من التحيز.
إن إشكاليات الفكر الليبرالي، على الصعيد الاجتماعي، لا تعني شيئًا لمن لم تكن جزءًا من واقعه المعاش.. لأنّه لا يعي ولا يدرك حيثياتها لا على صعيد الفكر ولا على صعيد الممارسة العملية في المجتمع.
ففلسفة الليبرالية أو العلمانية شيء وأطر تطبيقها، في النظم الادارية، لدولة شيء مختلف، خصوصًا للذين لا يعرفون عنها إلا رؤوس أقلام كما الحال عند بعضنا..
لمحة عن الدولة الحديثة:
«الليبرالية» كمفهوم ونظرية، هي من منجزات الدولة الحديثة، والمجتمع الإنساني المعاصر. وهي مفهوم متطوّر جدًا في «إدارة المجتمع المدني» بل هي «فن إدارة « المؤسسات المدنية من خلال التخصصات المهنية.. قامت الدولة الحديثة على أسس فصل السلطات، وتقسيم وظائف الدولة، على التخصصات المهنية.
تنقسم الوظائف الأساسيَّة، إلى قسمين: قسم يسمى (المجتمع السياسي) وقسم يسمى (المجتمع المدني).
المجتمع السياسي يهتم بـ «الوظائف الأساسيَّة»: وهو البعد العَلَماني لأيِّ دولة.
والمجتمع المدني يهتم بـ»الوظائف الخدماتية»: وهو البعد الليبرالي، في المجتمعات المتطورة.
يتكون ((المجتمع السياسي)) من الوزراء ومن البرلمانيين أو أعضاء مجلس الشورى المنتخب، وهو من يصنع القرارات الداخليَّة والخارجيَّة، ويعالج المشكلات العالقة والمستجدة ويقوم بإنشاء المرافق الحكوميَّة مثل المدارس والمعاهد وكليات الموسيقى والدراما والفنون والمسارح...الخ.
إن ((المجتمع السياسي)) هو البعد العلماني لأيِّ دولة كانت في العصر الحالي، لأنها قامت على أساس تقسيم التخصصات المهنية (وزارة الصحة، التعليم، المالية، الزراعة..لخ).. فكل الدول الآن، قامت على أسس علمانية الدولة، فأسس الدولة المعاصرة، هي علمانية التنظيم الإداري بامتياز.
والقسم الثاني هو ((المجتمع المدني)) يهتم بالوظائف الخدماتية: التي ترعى التَّعليم، وتطويره، والثقافة وعصريتها، و»استقلال القضاء» وحرية الرأي في الإعلام، ورعاية الحقوق المدنية، والتأمين الطّبي، ومكافحة الفقر والأمية ومكافحة الإرهاب والتطرف والعنصرية..الخ.
المجتمع المدني، هو البعد الليبرالي في الدول المتطورة.
إذا كان «المجتمع السياسي» هو الذي يقوم بإنشاء المرافق الحكوميَّة وهو من يصنع القرارات السياسيَّة الخارجيَّة، والاقتصاديَّة ويرسم السياسة الداخليَّة، فإنَّ من يشرع القوانين والأنظمة التي يسير على ضوئها المجتمع، هو «المجتمع المدني».
فعلى سبيل المثال: في المجتمعات ذات الطابع الليبرالي، كما الحال في ماليزيا واليابان، وكوريا الجنوبية، ومثلما الحال في المجتمعات ذات «الأسس» الليبرالية مثل مجتمعات أوروبا.. فإنَّ من يشرع القوانين والأنظمة والقرارات التي تخص المجتمع، منوط حصرًا بالمهنيين والمختصين، من قانونيين وحقوقيين وتربويين وعلماء اجتماع والنفس ومؤرخين، وعلماء الإدارة والتخطيط والتنمية البشرية والعمران.. فهؤلاء هم من يشرع القوانين والأنظمة الخاصَّة بالمجتمع بشكل خاص.
أتمنَّى أن يوجد لجنة أو هيئة أو جهة ما، مماثلة، وتكون جهة اعتبارية، وهي من يشرع القوانين والأنظمة الخاصَّة بمجتمعنا، وتكون بهذه الصفة أو أكثر مهنية مما ذكرت، حتَّى لا يخرج علينا من ليس لديه أيّ معرفة ودراية بالقوانين والأنظمة والواقع الزمني للمجتمع وتناقضاته وتنامية وديناميكيته، وتطلعاته إلى الحياة والامام، ثمَّ يفتي علينا فتوى تمثِّل سلوكه هو، وثقافته الشعبية المحدودة، ويفرض علينا أهواءه بفتواه؟.
هذه هي النظرية الليبرالية، كآلية لإدارة المجتمع والحياة، وليس عقيدة أو دين يتعبد بها كما يدعي بعض المشوشين ثقافيَّا؟.
تساؤل: إني أتساءل: ما الذي يُحفظ بعض من «نصبوا أنفسهم» علينا مشايخ ومحتسبين، في مسألة الفكر والثقافة وأسلوب الحياة؟.
ما الذي يدعوهم على سبيل المثال لمحاربة الليبرالية والعلمانية، وفهمهم لها بالأساس، قائم على الفهم المشوش لمحتواهما؟.
بالطبع ليس كما يدعون، ويرددون، بأنها انحلال خلقي أو أنها ضد الدين، ومن هذه الادعاءات الزائفة.. اعتقد أنَّه لإدراكهم، بأن المجتمع إذا خرج (وهو عمليًا قد خرج) عن طوعهم ووصايتهم، واستحواذهم على عقول الناس، سوف يتلاشى نفوذهم بين الناس، ومن الواقع الاجتماعي..
عندها سوف يخسرون «المميزات» التي منحها لهم بعض أفراد المجتمع، وكذلك الظرف السياسي والزمني، والحكومي..
عندها لن يجدوا أمامهم أبوابًا سهلة ومفتوحة لتجارة والثراء، وتيسير أمورهم في كلِّ مفاصل الدولة والمجتمع؟.
إن من نصّب نفسه «شيخًا أو محتسبًا» من قبل بعض الأشخاص غير المؤهلين وغير المخولين، في هذا الوقت، هو للتجارة عن طريق الدين، وهذا الأمر، ليس خافيًّا على أحد، الكل يعرف هذه الحقيقة؟.
على أنّه في واقع الأمر، ليس مُجرَّد أن أحدًا من الناس نصب نفسه شيخًا أو محتسبًا، علينا، بل الأمر أعمق من هذا بكثير.. يتعلّق الأمر بالثقافة الشعبية الجامدة التي لم يتم تحديثها منذ عقود طويلة والأعراف المتوارثة.. فثقافتنا، هي ثقافة المطوع الشعبية التي أسست وشكًلت تفكيرنا.. عبر عقود، بحيث إننا نرى كل ما «غير مألوف وغير مفهوم» نراه بعين (المطوع) المذهبية، والثقافة الشعبية، الضيقة للعالم والأشياء، التي كرّست في التَّعليم والإعلام. وعلى هذه النظرة الضيقة للعالم والوجود، يتم الحكم على الفكر والأفكار، بما فيها المدارس الفلسفية على أنها «دين» مضاد ومعادٍ لديننا الإسلامي. ونتيجة لهذه النظرة للعلم والعالم، تمَّت محاربة الفكر محاربة دينية ومذهبية، وإسقاط كل ما هو مشين وخبيث، على هذا «غير المفهوم وغير المألوف» وعلى من يتبناه.
تمامًا مثلما حدث مع الليبرالية والعلمانية على سبيل المثال؟.
وهكذا تتم رؤية كل الأفكار والمذاهب الفكرية والاجتماعيَّة والفلسفيَّة بعين المطوع الضيقة، ويَتمُّ محاربتها من خلال هذا الغبش في الفهم والإدراك الخاطئ والمهزوز.
هذه النظرة، ويا للكارثة، تكاد تنسحب على معظم أفراد المجتمع، حتَّى أولئك الذي تخرجوا من جامعاتنا، لديهم نظرة المطوع المحدودة للعالم وأشيائه، لأنَّه تَمَّ إنتاج المجتمع، والاستمرارية بإعادة إنتاجه، ثقافيًّا وإعلاميًّا وتعليميًّا، على هذا الثقافة الشعبية المحدودة.
فكمن ذلك المطوع، الرافض لكل ما هو جديد وحديث ومتطلَّع إلى الحياة والمستقبل، كمن في عقول معظم مجتمعنا، خصوصًا شبيبتنا الجامعيين، فحين تناقش، بعض طلابنا، في موضوعات فكرية، مثلاً، يقفز عليك ويقول: هذا حرام وكفر، بصورة ميكانيكية ومبرمجة بشكل لافت للنظر؟
وهو لا يدرك في حقيقة الأمر، هل أن هذا الطَّرح بالفعل يتعارض مع العقيدة الإسلاميَّة التي دعا إليها الرسول وعلم، أم لا؟
أود أن أكرر وأعيد، أنه مما لا شكَّ فيه، أن المسألة هنا، تتعلّق بالتربية والتَّعليم والإعلام والثقافة بشكل أساسي، لأنَّه تَمَّ «تربيتنا وتعليمنا» على اتخاذ موقف مسبق تجاه كل ما هو جديد، وتجاه الأشياء المستجدة والحديثة علينا وعلى مجتمعنا الفتي، بغض النظر، عن ماهية «هذا الجديد» وما حقيقته؟.
سواء كان على صعيد الحياة وأسلوب الحياة أو على صعيد المكتسبات العصرية والفكرية.
والأمثلة بهذا الخصوص كثيرة، فعلى سبيل التذكير، تَمَّ رفض تعليم البنات، في السابق، وتحريم، دخول «الساتل» للبيوت، وتحريم بل ومحاربة جوال الكاميرا (وهو جهاز إلكتروني؟) قبل مدة وجيزة من هذا التاريخ، وهناك فتاوى تحرم وتجرم كل ما ذكرت.
والمصيبة الكبرى أن بعض الناس الطيبين صدقوا أن ما تَمَّ تحريمه، هو حرام من دون إبداء أيّ تساؤل هل هو فعلاً «ضد العقيدة» والدين، أم أنها فقط ضد ثقافة المطوع وأهوائه الشخصيَّة.. لأنه صار عندنا خلط ما بين الحلال والحرام من كثر ما نسمع من مشايخة الفتاوى الذين لا يحصون في مجتمعنا، فالآن أصبح كل من هب ودب ينصب نفسه شيخًا علينا وعلى حياتنا وعلى تفكيرنا ويفرض أهواءه وتفكيره المحدود من خلال سلطة الدين علينا، وإذا تَمَّ الرد عليه أو تكذيبه من كل ذي عقل وبصيرة، يتم تكفيره، بكلِّ بساطة، ويكون من الخارجين المارقين من الدين والملة.