إلى ريم شوباصي
«ورَتبوا أحلامَهُم بِطريقةٍ أُخرى، وَناموا واقفين!»
محمود درويش
(1)
كانت جدتي يسرى، حبلى بشهرها الخامس، حين غادرت حيفا إلى شَعَبْ (قضاء عكا)، ليلتحق جدي بأهله وأخواته، على أثر ما يحصل في المدن والقرى الفلسطينية، من قتل وتهجير وتشريد للعائلات. وما أن وصل العريسان الجديدان، حتى كانت قوافل العائلة تتحضر للرحيل إلى لبنان مؤقتاً. هذا المؤقت الذي استمر ستا وستين عاماً ناجزة. فقدتُ خلالها جدي وجدتي. جدي الذي كان في أواخر أيامه ساهماً طوال الوقت وجدتي التي ذهبت إلى فلسطين في زيارة قصيرة اصطحبتني أنا وخالتي معها العام 1978. ثم زيارة ثانية 1982 برعاية أحد الجنرالات الإسرائيليين الذي اكتشف أن ابنة إبراهيم كريميد جارة أهله في حيفا مريضة بالسكري والجرح الذي في قدمها لن يخف سوى بعملية يجرونها هم في المشفى العسكري التابع لهم في حيفا.
كان جدي فلاحاً، نزل من قرى عكا إلى حيفا وعمل فيها قبل أن يتعرف على والد جدتي الذي سرعان ما سيوظفه عنده ويزوجه أصغر بناته. كانت جدتي جميلة، لكن جدي كان أكثر جمالاً، وكان يشبه ممثلي سينما الخمسينيات بأناقتهم وجاذبيتهم. وحين كنت مراهقاً، كنت دائما ما أقول له إنك يا جدي حتماً من أصول غربية. بينما كانت جدتي تقول لي إن قرية جدك والقرى الأخرى وعكا وكذلك المدن الفلسطينية التي احتلها العثمانيون، لم تبق عربية الدم كما بعض المناطق الأخرى. جاء العثمانيون بالألبان وهؤلاء تزوجوا وعاشوا بيننا ثم جاء الفرنسيون مع نابليون ومنهم من بقي وتزوج، ثم لحقهم الإنكليز في وقت متأخر وعاشوا وتزوجوا ومنهم من بقي حتى اليوم هناك لم يغادر وأصبح فلسطينياً.
كانت جدتي قد ولدت في حيفا وعاشت وتعلمت فيها. وحين هاجرت مع زوجها إلى جنوب لبنان، حيث فقدت جنينها على الطريق لم تبكِ سوى قليلاً، لا لأنها فقدت طفلها الأول، بل لأنها كانت تحلم أن تكون والدتها معها حين تلد وأن تعطي المولود، إن كان ذكراً، اسم والدها إبراهيم. ولأنها ابنة المدينة فقدت تعلمت حتى أنهت المرحلة الثانوية في مدرسة مار لوقا في حيفا، وكانت تتقن الإنكليزية والعربية والعبرية، اللغة التي أدخلتها في العام 1982 إلى مكتب الحاكم العسكري في سراي صيدا لتسأل عن أصغر أبنائها بعد اعتقاله. اعتقد الحارس أنها يهودية وأدخلها وحين أصبحت في داخل مكتب الجنرال الإسرائيلي، عرفته من هي وعرفها وأخبرها أنه ابن جيران أهلها في حيفا وأنه يعرف أباها جيداً وسألها عن قدمها ولم يخرجها من المكتب سوى إلى طائرة الهليكوبتر ثم إلى مستشفى رامبام لتمكث هناك فترة علاجها لكن دون أن يخرج ولدها من السجن. مات جنينها الأول، لكنها أنجبت بعده عشرة أولاد منهم أمي.
(2)
لم يكن سهل الصباغ في صيدا حياً فلسطينياً. كان على العكس من ذلك، حياً تسكنه أغلبية لبنانية سنية وعند مجاورته باتجاه الشمال، كان الحي يتحول إلى حي مسيحي بالكامل. حتى أن أكبر مقبرة للمسيحيين في المدينة، كانت تعتبر الحد الفاصل بين سكن السنة وسكن الشيعة في حارة صيدا. هذا التقسيم لم يكن يوماً في لبنان مدعاة استغراب، فالبلد الصغير مقسم بالكامل منذ نشأته.
كنا نسكن على الحدود مع الحي الآخر. بعد ولادتي في صور التي كانت أقرب إلى فلسطين، ثم الاجتياح الإسرائيلي والسفر إلى دمشق ومن بعدها إلى المنافي الكثيرة. كنا سكنا في صيدا. كان حي الزهور في ذلك الوقت عدة بيوت بين البساتين. ورغم تحوله اليوم إلى عدة شجيرات بين الأبنية إلا أنه حافظ على الاسم بعدما فقد كل مقوماته. كان الحي بغالبية لبنانية لغاية العام 1975 بعدها بدأ تتحول الهوية السكانية لصالح الفلسطينيين الذين يأتون من الجنوب ومن المخيمات للسكن في المدينة.
كنا ندخل من بستان (أم عاهد - ليست صاحبة البستان لكنها تسكنه مع عائلتها بعدما توفي أبوهم الذي كان يعمل به) ونخرج من الجهة الشرقية. نقفز من على السور العالي ثم نقطع سكة القطار الذي كان يأتي من التابلين ثم نتسلق سوق البستان الآخر بستان الزعتري لنسبه في البركة التي كانت أحيانا تسكنها الضفادع أو نستمر لنلعب في مقبرة الإنكليز.
كنا نذهب إلى المقبرة لنعلب كرة القدم. سوت الحرب القبور بالأرض، بعدها تحولت المقبرة التي بقي يرتفع فيها فقط صليب حجري إلى أرض قاحلة تسكنها العظام. لكننا كنا نلعب دون أن نأبه. كنا نركض لأوقات طويلة خلف الكرة وحين ننتهي في أيام الصيف نغطس في بركة بستان الزعتري ثم نتسلق الأشجار لنأكل البرتقال أو الكلمنتين، أذكر أني في طفولتي لم آكل هذا النوع من الفاكهة سوى عن أمه مباشرة.
دفن الإنكليز جثث جنودهم في الحرب العالمية الثانية في صيدا وبيروت. وجدت مثل هذه المدافن في مناطق كثيرة من أستراليا. تعتمد التنظيم نفسه. اليوم، حتى المقبرة التي كنا نلعب بها عادت مقبرة، ولو أن الأموات هم من يسكنوها لتحولت إلى منتزه بسبب ترتيبها ونظافتها. لفترة طويلة من حياتي كنت أعتقد أن الجنود ماتوا في فلسطين ودفنوا في لبنان. كنت أعتقد وأنا صغير أنه في معركة 1936 قتلوا وأن الحرب في فلسطين حالت دون دفنهم هناك. لكن القصة غير ذلك، لقد شارك هؤلاء في معارك الحرب العالمية الثانية ضد حكومة فيشي التي كانت تحتل لبنان، وفي كتاب اشتريته في سيدني عن الجنود الكومنولث الذين ماتوا تحت التاج الملكي عرفت أن المقبرة في صيدا فيها جنود مسلمون من الهند وأفغانستان وباكستان وفلسطينيون كانوا قد جندوا في الجيش الإنكليزي أيام وجوده في فلسطين. كما أن الكتاب يحتوي على مليوني ومئة وثلاثة وستين اسماً لجنود جميعهم قتلوا في الحرب الثانية.
كنا نتذكر المقبرة وقصة الإنكليز في مثل هذه الأيام التي تعاود ذكرى النكبة 1948 التي تحضر بقوة في المجتمع الفلسطيني المشتت. كنا نذهب وندعس بأقدامنا على أرضها انتقاما منهم أولئك الذين احتلوا بلدنا وسلموها لليهود. وقبل أن أقرأ الكتاب بدافع من حشرية طفولتي التي أطلت برأسها حين قرأت عنوانه، كنت أعتقد أنهم جنود إنكليز وأن علي أن أحتقرهم.
(3)
كانت ريم شوباصي تسكن الحي نفسه في طفولتها، لكنها سبقتني بسبعة أعوام أو أقل، وحين التقينا على الفيسبوك بدأت الحكايات تنسلُ من بعضها ككنزة صوف حيكت منزلياً. إن الأفراد الذين بقوا من طفولتي في ذلك المكان نادرون. لقد فرقتنا الاهتمامات والدراسة والعمل والسفر والشتات. الفلسطيني الذي ولد في لبنان لم يعجبه شتاته الطبيعي فاختار شتاتاً على مزاجه. سافر الجميع ومن بقي إنما لأسباب لا علاقة لها سوى بقلة روح المغامرة. وحين نزلت إلى بيروت لأكمل دراستي قال لي أصدقائي إنك لو أصبحت عالماً ذرياً لن تعمل في هذا البلد ولذلك عليك السفر منذ الآن. لكني بقيت وعشت في بيروت أفضل تجربة في حياتي. قبل أن أغادرها بسبب حماقة السلاح إلى فرنسا لأدرس أيضاً وأقيم في شتاتي الجديد إلى الأبد.
كانت ريم تلعب في المقبرة نفسها وكنت ألعب بها أيضاً، لكني كنت أيضاً كمن يتبعها في خطواتها وفي حياتها. في زياتي السنوية إلى تعنايل للتأمل عند الرهبان اليسوعيين الذين علموني، كنت أصل إلى ما يمكن أن نسميه الخطوة الأخيرة نحو الروح لكني لم أكن أصل. كانت طرقات الكروم طويلة وكنت أمشي بها كمن يسير في نومه، لكني لم أصل لا إلى ريم ولا إلى روحها. كما لم أكن أعلم أن أمها الفلسطينية تحب لبنان مثلي.
(4)
أعود إلى جدتي يسرى التي ماتت قبل أن تعود إلى فلسطين. على الفلسطيني أن تتقلص أحلامه بفلسطين كلما زادت سنوات بعدنا عن النكبة. هذه القاعدة باتت منطقية أكثر اليوم بعد أن أصبحت فلسطين إلى سور عالٍ بني من حقارة الحضارة الجديدة التي تحكم هذا العالم.
أول من أمس دعوت إلى تظاهرة في باريس من أجل ذكرى النكبة. أصبح اليوم التاريخي في حياتنا كشعب يوماً فولكلوريا صرفاً. ولهذا لم أذهب كما لم أذهب إلى الذكرى التي اختيرت من أجل حق العودة. ليس لأني لا أريد أن أعود. بل لأني أعود كل يوم إلى فلسطين أطمئن عليها كما تطمئن أم على أولادها وأعود إلى حيث أنا. أتابع حياتي كشخص أصبح منذ زمن ينتمي إلى العالم.