مكث العملاق أياماً لم يزرني في مرقاب رأس الجبل، وقلت: هل هاجر إلى بلاد أخرى أم هجرني إلى صحب آخرين؟ وبينما أجيل التفكير فإذا هو شاخص أمامي، فاحتضنني كالطفل الرضيع, وقال: أنا وحيد في هذا الكون، لا صاحب ولا صاحبة، وفضل من الله أن تعرفت عليك فأنست بك، وأنت كذلك، وكنت قد حاولت من قبل، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ومنهم من ذهب عقله. فقلت له: وأنا انفضّ من حولي الأصحاب، فمنهم من تولى مع أهله، ومنهم من أحرقته النفس، ومنهم من استدرجته الغيبة والنميمة، ومنهم من جفوته ولست أعلم، ومنهم المنافس الحاقد الحاسد.. فقال: هكذا البشر من الأزل، يجتمعون فيفترقون، وتارة يتباغضون، وتارة يتقاتلون.. فالبشر هم البشر قديماً وحديثاً، وقد بدأها قابيل فقتل هابيل. فقلت: إذن، كلانا غريب الفكر والنفس، وتارة غريب الديار، فالتقينا وتعارفنا، وسنمضي مع سيرة الحياة، فأمّا موت يفرقنا، أو خصام يباعدنا، أو مجاعات تشغلنا.. وأردفت قائلاً: كم من مكائد أحدقت بك، وكم من مصائب ألمت بك، وكم نوازل اجتماعية بأقوامك والأقوام التي شهدتها من طرف خفي.
فقال: لو أحكي لك لبكيت أنت ولبكيت أنا أكثر. فأخذ الدمع يتدفق من عينه، فقلت: صبراً صبراً، إنك رجل عركتك الليالي والأيام، وأخذت منك الأهل والبنين، ودمرت المنازل، ونفقت الإبل والبقر والأغنام؛ ما جعل المصائب تهون عليك بعدها. قال: صدقت، لكني أسرد عليك ما تستدعيه الذاكرة أثناء الحوار.
2
فقال العملاق: سأسرد عليك حكايات ذات غرابة، تمس معاناتي من الحياة: كنت قد تزوجت وأنا شاب يافع، وعمري لا يتجاوز مائة وخمسين عاماً، بفتاة شارفت على البلوغ، وعمرها تجاوز مائة عام، وعشنا حياة طيبة هانئة, فكنت أسعى وراء الصيد، وأجلب لنا اللحوم، وتكاثر الأولاد، فتارة توأمان، وتارة أربعة, حتى استوطنا عدداً من الجبال والتلاع والأودية، وأضحيت أباً لقبائل متعددة، يلجؤون إليّ وقت الخصام والمشورات، ويطيعون أمري، وأنا سعيد بذلك. وفي يوم من الأيام اكفهر وجه السماء، واصفر الفضاء، وإذا العواصف تتصاعد كأنها سحب، وبداخلها حمم من النيران، فإذا بها براكين من الجبال الحمراء التي لا سواد فيها، فأخذت تقذف الحمم من داخلها وأنت ترى الحرات والحجارة السوداء، فدمرت المنازل وقتلت الأحياء من الناس والحيوان، بل عفت على المباني وكأنها لم توجد، وقد كنت وكانت منازلنا بين جبال حمر وأودية سحيقة وغابات كثيفة، وبالقرب منا جبل وتر، هذا الشامخ الذي تراه منذ ذهبت لقمته عام 1428 هجرياً، وقد رأيتك وأنت مع صحبك وأنت تسير قليلاً وتقف، ثم تجلس كثيراً، فداهمتنا تلك الأحوال الجوية المخيفة، وانطويت في كهف بين صخور قمته أياماً وأياماً، فلما عدت لم أجد من يعطي الخبر، لا بشراً ولا شجراً، فهلك كل ذي حياة، وأضحت الجبال الحمراء سوداء من الحجارة البركانية.
أمّا أنا فبعد أن مكثت أياماً لا يستطيع كل حي أن يتحرك حتى للأكل والشرب خرجت من الكهف، وكان همي الأول كيف أجد ماء أو طعاماً، وقد أنهكني الإعياء، فأخذت أستعيد الحياة شيئاً فشيئاً، وحال أسرتي يداهمني، فكان الإعياء سبيلاً لهوان الصدمة الكبرى في الذرية والذراري. مشهد كنت أرقبه، فحماني الله لأكون شهيداً أو لأُبتلى به.
فذهب الأهل كلهم والماء، والتجأت إلى بقايا قوم صالح، فهم أقرب أجساماً وأحلاماً.
فقلت: كفي، كفي، إن مصائبكم لعظيمة على قدر أجسادكم، وربما عقولكم، ذلك مما جعلكم جبابرة تصارعون الأنبياء والرسل فلم تؤمنوا، وربما إن هذا عقاب لكم، وقد ورثتم البشرية الاقتداء بالآباء في عاداتهم وتقاليدهم التي حرفت البشرية عن الإيمان والفطرة والتصديق بالأنبياء. فقال: إن حكايات المعابد كثيرة في دياركم، تكاد تراها في كل ريع وروض وسفح جبل وقمته.. إنها حكايات وحكايات تغضب الرب.
فقلت: أيها العملاق، إنك شاهد على هذا الإنسان وتقلباته الفكرية وعدم خضوعه للحوار والعقلانية. قال: نعم.
قلت: هل الناس مؤمنون من أعماقهم بعباداتهم.
قال: إنها التبعية مفقودة التفكير والإقناع، وإن الولاء للبشر المسيطرين كان أكثر من التفكير وأكبر.