إن هذه الدراسة النقدية تهتم بقائمة أفلام جائزة الأوسكار، وتدرسها ثقافيًا بالاعتماد على النقد الثقافي لتبين مكنونات هاته الأفلام الفكرية والثقافية تجاه أفراد العالم وحكوماتهم، وبالخصوص حينما نوقن أن قوة أثر الفن السينمائي باتت هي القوة العظمى في التأثير على جميع الأفراد؛ إذ إنّ قوة الشاشة ثقافيًا تطغى على ما عداها من سبل ثقافية أخر؛ ويتحتم هذا مع التقنيات التي تتجدد دومًا للشاشة وللإنتاج السينمائي. إن هذه الدراسة تحاول أن تتغلغل في النسق الثقافي لشخصيات هاته الأفلام الرئيسة وتبين ما وراءها من تسلطٍ وتعدٍ على الإنسانية وإنْ كانت الحجة هي فرض الديموقراطية؛ ولعل أمريكا منذ أن امتلكت شهادة فوكوياما بنهارية التاريخ ومن قبل وهي لا تفتأ تبرز سلطتها وقوتها الفكرية كمخلص للعالم من بؤسه، وفي هاته الجائزة تواطؤ مع السياسة الأمريكية مما يجعلنا نرجح التأثير السياسي والفكراني عليها وبالخصوص حينما نعلم أنها جائزة مؤثرة عالميًا.
إننا لا نستطيع أن نتعامل مع هذه الجائزة بنية تشجيع الإبداع السينمائي فحسب؛ وذلك حينما نعلم أنها تصب جلّ اهتمامها على المثاقفة والجانب الفكراني في الإبداع السينمائي ويدل على ذلك خلوها من أفلام الخيال العلمي وكذلك من أفلام الأكشن إلا يسيرًا؛ بل وخلوها من أكثر الأفلام رواجًا في العالم وهي الأفلام الرومانسية والجنسية؛ مما يدل على أنها ليست معنيةً بالجانب الفني والإنتاج السينمائي وليست معنيةً بما تَوَصّل إليه الإبداع السينمائي من تقنيات في عصر التطور التقني الصارخ؛ بل إنها تحمل فكرانيةً تود أن توظفها في المجال السينمائي لما لهذه الجائزة من حظوة لدى شعوب العالم حتى إنها تحصل على تقييم عالٍ في الموقع العالمي imdb الذي يهتم بقاعدة بيانات الأفلام.
وتعتمد الأفلام الفائزة بالأوسكار على الرأسية الثقافية أو السلطوية الثقافية الفكرية؛ وتبدأ هذه الرأسية الفكرانية مع العرب؛ فتَظهَر في عدة أفلام منها لورنس العرب Lawrence of Arabia وخزانة الألم The Hurt Locker وكلها تعطي صورة سلبية عن العربي، إنْ تاريخيًا في لورنس العرب أو حاضرًا في خزانة الألم، وفي كلا الفيلمين يكون الآخر بريطانيا في لورنس العرب وأمريكا في خزانة الألم هما المسيطران والمؤثران على العربي والمحافظون على حياته، وفي كلا الفيلمين يظهر العربي بليدًا لا يفقه شيئًا ولا يمكن له أن يعيش دون تسلطٍ من هذا الغرب (حامل الحرية للعالم)، وحصل هذا قديمًا في فيلم لورنس العرب، ومعاصرًا في فيلم خزانة الألم، فينجح لورنس البريطاني بحل إشكالات العرب التي لولاه لقَتَل العرب بعضهم بعضا؛ وينجح (الجندي) -الذي لا يحمل رتبةً عالية في السلك العسكري- في حل إشكالات العراق/العرب التي لولاه لقتل العرب/العراقيون بعضهم بعضا، ويتدخل لورنس قديمًا بحنكته ودهائه وإغرائه المادي للعرب في التأثير عليهم؛ ويتدخل الجندي في فيلم خزانة الألم بفك القنابل التي يلغّمها العراقيون لقتل الآخرين ويجمع طرفًا من هذه الألغام في خزانته خزانة الألم، ويُضَحّي لورنس بحياته التي كاد يفقدها في مرات عديدة معهم حتى يحل مشاكلهم/يخضعهم للسلطة البريطانية؛ ويُضحّي هذا الجندي بحياته في أحيان كثيرة بتهور غير مسبوق من زملائه في فك القنابل الكبرى التي كادت تودي بحياته وحياة الآخرين من حوله.
ولا نجد هذا الوجه الأبيض لأمريكا في فيلم green zone (وهو فيلم خارج قائمة الأوسكار) الذي يوافق فيلم خزانة الألم في تدخل أمريكا بالعراق ولكنه يظهر التناقض بين الإعلام الأمريكي والواقع وكذب الإعلام على حجة أسلحة الدمار الشامل التي غزت أمريكا العراق لأجلها، ويُظهر الفيلم هاته الكذبة لكنه يبين أيضًا رفض الشعب لحزب البعث الذي حاول مواجهة القوات الأمريكية فينتهي قتل الجنرال (الراوي) على يد أحد العملاء العراقيين الذين ساعدوا الضابط (ميلر) للقبض على (الراوي)؛ فالفيلم هنا يحيل إلى كذبة أمريكا في أسلحة الدمار الشامل وفي المقابل فإنه يرفض حزب البعث وحكم صدام وأن العراقيين ذاتهم يرفضون حكم البعث.
ولا تقف هذه السيطرة الفكرية على العرب بل تجاوزتها إلى غيرهم كما في إيران حينما صور الفيلمُ الواقعةَ التي يقال إنها حقيقة في حجز الرهائن بعد الثورة الخمينية ونجاح التخطيط/العقل الأمريكي على العقل الإيراني في تخليصهم مما كانوا فيه كما في فيلم argo الذي أحدث دويًا فكريًا حال فوزه.
وكذلك تسلطها على الصين/آسيا من خلال تصوير تاريخهم أثناء الحكم الإمبراطوري في الفيلم The Last Emperor الذي يُظهر قوة تأثير المعلم الغربي الإنجليزي الذي جاء لتعليم هذا الإمبراطور الصيني الصغير اللغة الإنجليزية ولكنه أثر عليه ثقافيًا أكثر منه لغويًا حتى إن الإمبراطور الصغير يستشيره في اختيار زوجته؛ ووصل الأمر في قوة سلطة الغربي الثقافية أعلى آسيا.
الثقافية على آسيا/الصين أن يطلب الإمبراطور زوجةً عصريةً تتقن (اللغة الإنجليزية)، واستمر تأثير المعلم الغربي إلى تحطيم عادات الحكم الديكتاتوري والتحول إلى الديموقراطية فنجح في التأثير عليه وأسقطت الثورة حكم الإمبراطورية في الصين.
وأيضًا تدخلها في التأريخ الإيطالي الذي يُظهر مرحلةً من تاريخهم الذي حكمته المافيا وأثرت فيه تأثيرًا كبيرًا؛ ففاز بالجائزة جزءان من فيلم The Godfather الذي يحكي قصة هذا الصراع بين عصابات المافيا في تلك الحقبة التأريخية بإيطاليا.
وتحاول أمريكا أن تكون رحيمةً باليهود الذين أحرقتهم النازية في فيلم Schindler›s List الذي يحكي قصة أذية النازية لليهود، ويصور الرجل الألماني المسيحي التاجر الذي كان يعامل اليهود بكل أدبٍ وحسنى فأنقذ منهم الكثير بماله؛ فخلط بين الربح والرحمة، فأضحى من الأغنياء بفضل التجارة في مستلزمات الحكومة النازية والتجارة بالسلاح من بعد؛ وكل ذلك بتسخير اليهود للعمل تحت سلطته وفي شركته التجارية؛ ويظهر الفيلم منافحته لآخر رمقٍ حتى يكسب نجاة هؤلاء اليهود الذين هم تحت إمرته. ولعل أمريكا حينما تعرض قضية (الهولوكوست) في هذا الفيلم وتمنحه جائزة الأوسكار تظن بهذا أنها تُظهر موقفًا إنسانيًا يدافع عن الإنسان وعن اليهود المظلومين وهي قد نسيت أو تناست جرائمها التأريخية والمعاصرة مع الغير كما حصل في فيتنام وفلسطين والعراق حاليًا؛ وإن ما قامت عليه هذه المحرقة في الفيلم وتصويرها لنجاة اليهودي النفعي فقط وأما غير النفعي فمصيره القتل بالغاز أو بالرصاص أو حرقًا فإن هذا «نموذج غربي نفعي مادي بدأ في أمريكا الشمالية واستمر في أفريقيا وفلسطين ووصل لحظة التبلور النماذجية في اللحظة النازية. ولعل الفارق الوحيد بين عمليات الإبادة الغربية الأخرى وعملية الإبادة النازية، أن عمليات الإبادة الأخرى كانت تتم دائماً ضد السود أو المسلمين أو الآسيويين» (الباب السادس من الجزء الثاني في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبدالوهاب المسيري)، وتستمر تعمية أمريكا/الغرب لجرائمها برفض هذه الجرائم النازية ضد اليهود ف «تتم تبرئة الحضارة الغربية الحديثة، وهكذا تضيع الحقيقة وتميد الأرض وتُوظَّف الحقائق لا للرؤية وإنما للتعمية. ومن ثم يمكن الاستمرار في الإبادة في فيتنام وفلسطين والبوسنة والهرسك مع الثرثرة المستمرة عن ضحايا النازية، وضرورة إيقاف المذابح» (الباب السادس من الجزء الثاني في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبدالوهاب المسيري)
كما أني أعتقد أن فوز فيلم gandhi بالجائزة والاهتمام به كمناضل مسالم للعيش بسلام ما كان لولا أن إشكال غاندي كان محصورًا ببريطانيا و ليس بأمريكا، لعلاقة الاحتلال البريطاني لهم ؛ فهل سينال فيلم غاندي هذه الجائزة لو أن المحتل هي أمريكا؟!
إنّ أمريكا/الآخر تمارس فرض ذاتيتها عبر أفلامها التي تنال شهرةً واسعة بعد فوزها، بل وتحقق أرباحًا عاليةً جدًا منذ فوزها، فتنال بهذا الفوز الذاتية الطاغية على الآخر كما أنها تنال الربح المادي حتى إنه يصل ببعض الأفلام أن يحقق أرباحًا تنافس ميزانيات دول تصل إلى ملايين الدولارات.
وقد تمارس أفلام الأوسكار نقدًا لأمريكا حكوميًا وفرديًا لكنها تحصر هذا النقد في الحكومة الداخلية التي تهتم بإدارة الدولة من داخلها دون مساس بالآخر كما في فيلم (Chicago)، و تمارس نقدًا فرديًا للفرد الأمريكي لكنها تبيّن في الفيلم ذاته أن فردًا أمريكيًا آخر يهدي إلى الحق والحرية والعدل كما في فيلم Years a Slave12 الذي ينقض الفرد بفرد آخر؛ ولا يترك صورة الأمريكي على عموميتها السيئة المحتقِرة للأسود؛ الظالمة والسارقة لحرية الإنسان.
فبالاستقراء لأفلام الأوسكار لا نكاد نجد فيها فيلمًا كاملًا يصوّر طغيان الفرد الأمريكي أو الحكومة الأمريكية على الآخر؛ إنْ قديمًا بالعبودية أو حديثًا بالامبريالية؛ ونحن نعلم تاريخها مع السود بل ويعترفون بهذا التاريخ السيء لهم، وعندما فاز الفيلم الذي يحكي شيئًا من هذا التاريخ السيء لعلاقتهم بالسود و تعمقهم في أفريقيا بنهب خيراته وإستعباد أهله كما في فيلم Out of Africa فإنه يصور أدب الأمريكي الأبيض صاحب الأملاك مع الأفريقيين حينما يهتم بهم ويعاملهم بالحسنى بل إن زوجته عالجت ذاك الشاب الأفريقي من مرضٍ في قدمه ولما شُفي أتاحت له الفرصة للعمل في إقطاعيتها ومزارعها في تجارة السكّر. فهل من الممكن أن يفوز فيلمًا في الأوسكار يكشف الإمبريالية التي تمارسها أمريكا في زمن العولمة؟! وهل من الممكن أن يفوز فيلمًا يكشف تدخلاتها في سياسات العالم بحجة (نهاية التاريخ) وفرض الديموقراطية على حكومات وشعوب العالم؟! وهل ممكن أن يفوز فيلمًا يكشف لنا زيف التعددية الثقافية الخاضعة للسلطة السياسية التي تتبناها أمريكا؟!
وفي ختام هذه الدراسة المختصرة فإني أعتذر للقارئ تشويه متعته في مشاهدة أفلام الأوسكار، لكنها ستفتح مجالًا للعين الأخرى الناقدة التي ترى ما وراء المتعة، وتنظر بعين أكثر تدقيقاً لما هو مستبطنٌ في الفن السينمائي الذي تسيّره دول وسياسات ليكون موافقًا لأدلجتها وسلطتها، فجائزة الأوسكار ليست جائزةً محليةً تمر دون صخب وتأثير فكري، لأنها الجائزة التي تتنافس الشركات الكبرى على الإعلان لمنتجاتها في الساعة التي تبثّ فيها الجائزة نبأ الفيلم الفائز في كل عام، فأضحت هذه الجائزة منارةً فكريةً مؤثرة توازي جائزة نوبل في شهرتها وتأثيرها الفكري والثقافي، لذا فإنه يتحتم على الناقد الثقافي أن لا يتعامل مع هذه الأفلام العالمية بسطحية وحسن نية يظن من خلالها أن الجائزة تهتم بالجانب الفني فحسب.