أما القاعدة الأساسية الثانية من قواعد ديكارت، فتستلزم تحليل كل مشكلة إلى أجزاء كثيرة قدر الإمكان، من أجل الوصول إلى حلها أولاً، فالمشاكل يسهل حلها عند تفكيكها، وبحل الأجزاء المفككة للمشكلة يتم حل المشكلة الأم، بشكل أفضل وأدق وأصوب.
والقاعدة الثالثة تدور حول البناء المعرفي للإنسان، فالإنسان إذا أراد بصدق إنجاز نظام خاص به في بناء المعرفة، فإنه يتحتم عليه أن يبدأ بالمعارف البسيطة السهلة، ويتصاعد منها تدريجياً إلى المعارف المعقدة الصعبة المركبة.
وهذه قاعدة مميزة في الحقيقة، فكثير من الناس يشتت ذهنه بالتقعر في مسائل ومواضيع معقدة عميقة صعبة في مجال ما، وهو لم يستوعب الأساسيات الأسهل والأبجديات الأوضح والمبادئ الأولية الأبسط في ذلك المجال، فيضيع وقته ويهدر جهده دون أن يصل إلى نتيجة تتناسب مع الأوقات والجهود التي بذلها، وهذا سبب جوهري من أكبر أسباب الفشل المعرفي بلا شك.
والقاعدة الرابعة الأخيرة من قواعده الأساسية، هي الترتيب، أي أن يجتهد الإنسان في ترتيب بنائه المعرفي بشكل كامل شامل منسق قدر الإمكان لكل المعارف في أدق التفاصيل، فلا مجال للفوضى المعرفية عند ديكارت.
وأظن أني أستطيع تقريب معنى هذه القاعدة من خلال هذاالمثال: افترضْ أن بناءك المعرفي كالقصر الفسيح الذي تبنيه أو تجهزه للسكن، فلا بد أن ترتب غرفه وأقسامه ترتيبًا مريحًا لنفسك، يجعلك تتنقل بين جنباته بسهولة، وبصورة سلسة تمكنك من الوصول إلى كلّ ِحاجة تحتاجها بأقل مشقة، وهكذا البيت المعرفي الخاص بك أيها الإنسان؛ يجب أن تكون غرفه العلمية والمعرفية منسقة بعناية، وفق رغباتك واهتماماتك وأولوياتك، وبطريقة تناسبك، وتريح نفسك وذهنك عند الرغبة في الوصول إلى أية غرفة لاستحضار أيّة معلومة في أيِّ وقت تشاء.
ولا بد عند ديكارت أيضًا من ديمومة المراجعة الشاملة والتدقيق المستمر، لكل ما يضعه الإنسان في سلته المعرفية، ليطمئن دائمًا أنه لم يُغفل شيئاً مهمًا، وأنه لم يضعْ شيئاً في غير مكانه، وأنه لم يضعْ شيئاً غير صحيح، أو غير ثابت، أو لا يستحق الوضع.
وفي القسم الثالث من هذا الكتاب، يبرر ديكارت تبنيه فكرة (الأخلاق المؤقتة) فيسأل: كيف ينبغي أن يعيش الإنسان، وكيف يمكن أن يكون موقفه من المجتمع وهو لا يملك قواعد أساسية يقينية في الأخلاق، ولا في أي مجال من مجالات العلم والمعرفة؟
ويجيب عن هذا السؤال بـ»أخلاقيات العصر»، فحيث إن البيت لم يجهَّز بعد للسكن، فينبغي على الإنسان أن يسكن خارجه في شقة مؤقتة، حتى ينتهي من التجهيز.
ومن هنا جاء اتفاق ديكارت مع الحكيم مونتانيي، في ضرورة المجاراة الحذرة، التي تقوم على «الرزانة»، وكم أعجبتني هذه الرزانة، التي وضع لها ديكارت عدّة قواعد، أولها الالتزام بقوانين الدولة ومذهبها الديني.. وثانيها السير بتصميم وإصرار في الطريق، بلا تردد أو ارتباك.. وثالثها أننا نتحكم في تفكيرنا لا في أقدارنا.. وآخرها أنه ينبغي على الإنسان أن يبذل جهده في الوصول إلى أسلوب الحياة المناسب له.. فهو نفسه مثلاً قرر أن يكرِّس حياته للبحث عن المعرفة.
والآن بعد أن أقام في سكن مؤقت حسب المثال السابق، وبعد أن توصل إلى إرشادات بناء بيت المعرفة، وهي قواعد منهجه الأساسية، بدأ في القسم الرابع يناقش جواهر القضايا المختلفة، ومنها الغيبية.. إنه يرسم في هذا القسم الخطوط العريضة للأسس، التي ينبغي أن يقوم عليها بيت العلم، الذي لا تستطيع الرياضيات وحدها بناء أسسه، رغم تأثيرها الكبير على هذا المنهج؛ لأنها تقدم من خلال أصول التحليل الحدس والاستدلال القياسي أدوات منهجية هامة؛ ولكنها لا تصل إلى درجة معرفة القواعد الأولية للحقيقة.
وفي القسم الخامس يتناول ديكارت خطة كتابه غير المنشور (العالم) كما يتحدث في هذا القسم عن الجسد، ويفرق بينه وبين العقل، فهما عنده جوهران مختلفان، لا يمكن تخطي الهوة التي بينهما، وبذلك يكون الجسد (شيئاً متمدداً) لأن الصفة التي تميّز المادة هي التمدد.. إن الجسد عنده ليس إلا آلة، صُممت بتقنية أعلى كثيراً من تصميم كلِّ الآلات.. ولكن الإنسان بعكس كل الحيوانات آلة لها روح، وهذا يشكّل الاختلاف الحاسم.
وفي الحقيقة أني أختلفُ معه في نفي الروح عن كل الحيوانات الباقية - إن كان فهمي لمراده سليمًا - والتفصيل في هذا يطول وليس هذا مكانه.. مع ضرورة الانتباه هنا أن ديكارت قصر الروح على الإنسان، بناء على تعريفه للروح، حيث يراها (شيئاً مفكرًا)، وهنا سؤال كبير أطرحه وأنوي بحثه لاحقاً، وهو: هل كل روح هي مفكرة بالضرورة؟!.
ثم يدلل ديكارت على وجود الله، من يقين برهان مقولته الشهيرة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، فرغم أن الإنسان يقوم بتجربة النقص والخطأ باستمرار، إلا أنه يوجد أيضاً في تفكيره تصورٌ لا ينمحي للكمال.. لكنه لا يستطيع أن يُنشئ هذا التصور من ذات نفسه، لأن الكمال غير وارد في عالمه المحسوس، ولذلك يصل ديكارت إلى أن هذا التصور للكمال لا بد أن يكون مغروسًا في الإنسان من ذاتٍ كاملة لا يراها في عالمه.. وبذلك يُثبت عقلاً وجود الله الكامل في مقابل الإنسان، من حيث أنه عقل خالص بلا جسد.. فهو خالد كخلود الروح، وبعكس الجسد الذي يفنى.
العقل هو الروح في نظر ديكارت، وهذا العقل هو الذي دلّه على وجود الله، فقد كان ديكارت مؤمنًا، ويظهر ذلك من خلال تأكيده الجميل على أن «فكرة الله» مطبوعة في الطبيعة، كما تحمل اللوحة توقيع الفنان.
وأحب أن أستطرد هنا، فأقول: أنا أفكر إذن أنا موجود، مبدأ ديكارتي اشتهر وذاع صيته، ومنه نفهم أن التفكير في نظر ديكارت ليس إلا الوجود، وما أجمل هذا الوجود الذي يستلزم وجوده وجود الإنسان، ويستلزم زواله زوال صاحبه أيضًا.. إن التفكير هو كل شيء وهو أقدس شيء وهو أعظم شيء في رأي ديكارت.. كيف لا وقد جعله دليل الوجود، بمعنى أن الوجود ينعدم بانعدامه.. إلى أن هذا التصور للكمال لا بد أن يكون مغروسًا في الإنسان.. وبناء على هذه المكانة العالية للتفكير عنده، استهلك صاحبنا تلك السنوات الطويلة في الكتابة عنه، أي عن التفكير، فأنتج نتاجاً ضخماً مميزاً، لم يسبقه أحد إلى مثله، حول التفكير وكيفيته الصحيحة النافعة، ويأتي على رأس ذلك النتاج كتابه هذا عن منهجه في التفكير، أي طريقته الخاصة في توجيه قواه العقلية.
المهم هو أن ديكارت بعد هذا الاستدلال العقلي على وجود الله، ختم كتابه بالقسم السادس الأخير، الذي خصصه للحديث عن التطبيقات الممكنة لمنهجه، ولاكتشاف القواعد أو الأسباب الأولية على وجه الإجمال، لكل ما هو موجود، أو يمكن أن يوجد في هذا العالم، دون مراعاة أي شيء آخر غير الله، في سبيل هذا الوصول إلى هذه الغاية.
لقد حوَّل ديكارت صياغة السؤال الغيبي الكبير الأساسي الأول، من السؤال عن «جوهر الأشياء»، إلى السؤال عن «شروط معرفة الأشياء» في وعي الإنسان.. وبذلك يصبح ديكارت من أبرز مؤسسي نظرية المعرفة في العصر الحديث، ومؤسسي فلسفة الوعي، التي أصبحتْ في نظر الكثيرين (الفلسفة الأولى) بدلاً من (الغيبيات)، وبذلك تتحوّل إلى فرع أساسي جديد للفلسفة.
نشر ديكارت «مقال في المنهج» 8 يونيو 1637 في مدينة لايدن الهولندية، ورغم أنه أصر على وجود الله، وعلى خلود الروح، إلا أن الكنيسة - كعادتها - استمرتْ في التضييق عليه، ومن ذلك منعها لهذا الكتاب عام 1663م، ولم يسمح بطباعته مرة أخرى إلا دون مؤلف في عام 1690 في فرنسا.
والخلاصة هي أن كتابه العظيم هذا رغم إيجازه يشجع على التفكّر الزائد، أي على التفكير العميق جدًا، إلى الحدِّ الذي يستفيد فيه من الشكك قوة دافعة للمعرفة ومنتجة لها في الوقت نفسه..
ويعاب على ديكارت أحيانًا - في نظر البعض وأنا منهم - استعجاله في تقرير بعض النتائج، ولذلك ظهرتْ بعض التراجعات أو التحولات والتصادمات البسيطة في كتاباته، وهذه نقطة ضعفه الأبرز؛ ولكنها لا تنفي أنه من أروع الفلاسفة فكرًا ومنهجًا وأمن أكثرهم إبداعاً وإمتاعًا للمتلقي.
ويحسب له اهتمامه الكبير، بدراسة العلاقة بين الروح - التي هي العقل عنده - والجسد، وحديثه عن «الأنا المفكرة» بطريقة عذبة سلسة، فهو يعتبرها - أي الأنا المفكرة، أكثر واقعية وحقيقية من العالم المادي الملموس، الذي ندركه بحواسنا المختلفة.
كما يحسب له أيضاً بلا شك، أن أداته في الوصول والحصول على المعارف، اختلفت عن محاولات غيره من حيث الوضوح، فكثيرًا ما يعاني المهتم بالفلسفة من غموض أفكار كثير من الفلاسفة، ووعورة طرقهم وجفاف وتعقيد أساليبهم، وتداخلاتها الشائكة المنفّرة؛ أما صاحبنا ديكارت، فقد خلت تعابيره من ذلك كله، فجاءت أفكاره مستساغة سهلة الهضم، وجاءت أساليبه وألفاظه سهلة ميسرة متناغمة منسجمة مع بعضها، تشعر من يريد فهمها والاستفادة منها بكثير من الارتياح والتقبّل.
ديكارت أراد أن يقول ببساطة حسب فهمي له: منهجي هو أن لا أسلّم بصحة أي شيء؛ أي لا أسلّم بأي شيء على أنه حق؛ إلا بعد أن يثبت لعقلي ذلك بوضوح كامل، بالفحص، والتأمل، والبداهة، والموضوعية، والتجرد، والتريث والتأني الطويلين..
أراد أن يقول: منهجي هو تقسيم كل مشكلة أبحثها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء الصغيرة، إلى آخر حد ممكن من التقسيمات الممكنة، التي تؤدي إلى حل كل قسم على حدة أولاً، وبالتالي حل المعضلة الأساسية الكبيرة.
أراد ديكارت أن يقول: منهجي في طريق المعرفة يقوم على «ترتيب الأفكار» ويهتم بهذه النقطة جدًا، فالبسيط السهل الميسر هو المقدم عندي دائمًا، فكلّما زادت الأمور تعقيدًا أخّرتها، وأنا في هذا الترتيب دقيق جدًا؛ لأن أي خلل في الترتيب قد يخل ببنائي المعرفي كلّه..
وأراد أن يقول ويقول الكثير بالتأكيد، فكل ما أوردته عنه في هذه المقالات، ليس إلا غيضًا من فيض بحره الكبير الغزير.
ومسك الختام، هو أن أبرز مميزات منهج ديكارت عقلانيته المتشددة، المشابهة لعقلانية الكبيرين (سقراط وأفلاطون).. فالعقل عند أبي الفلسفة، هو أساس المعرفة الوحيد دائمًا وأبدًا.