كيف هي علاقة الواقع بالفني في منجزنا الروائي؟ هل يطغى الواقع فيه على الفن؟ هل نعاني حقا من تهميش الفن في الرواية رغم كونها جنسا فنيا في المقام الأول فضاعت بذلك المضامين وما تحمله من قيم؟
الحديث عن الفن والواقع في الرواية كما يؤكد أستاذ الأدب والنقد في جامعة القصيم محمد نجيب العمامي مبررة نتيجة لكون الرواية من أشد الأجناس الأدبية التصاقا بالواقع وذلك لقيامها على تمثيل هذا الواقع أو تصويره بل إن أكثر الروايات إغراقا في الخيال وإنكارا للواقع تجد نفسها مضطرة إلى أن تستعير من واقع عصرها بعض مقومات.
حيث الرواية الفنية كما يؤكد الناقد التونسي في ورقته التي ألقاها في نادي أدبي الشرقية مؤخرا، هي تلك التي تستطيع إنهاض عالم متخيل بنفسه بفضل تماسك مكوناته وانسجامه الداخلي الذي يتجلى في غياب التناقض والترابط السببي العلي بين الأحداث. ويقول: إن من مظاهر هذا الانسجام في الرواية الواقعية تضمن البداية أغلب البذور التي ستنمي لاحقا وإنباؤها بالنهاية ورد النهاية إلى البداية.
ممثلا على طرحه هذا بثلاث روايات سعودية هي:» الحمام لا يطير في بريدة»، ليوسف المحيميد والتي يرجح أن فوزها بجائزة أبي القاسم الشابي»، في تونس يقوم دليلا إضافيا على نجاح الرواية الفني رغم ما سيقف عليه من هنات نادرة
إضافة إلى رواية «وجوه بلا أجنحة»، لإبراهيم بن منصور التركي التي تعالج علاقة المرأة بالرجل وقضيتي الحرية والإرهاب. مشيرا إلى أن الروايتين نهجتا نهجين مختلفين في بناء الأحداث وفي إنهاض العالم المصور بمعزل عن منتجه. فيما الرواية الثالثة المختارة كنموذج في ورقته هي رواية» شرق الوادي»، للدكتور تركي الحمد الذي يعتبرها الناقد ذات بناء مختلف لأنها قائمة على التضمين إذ تحوي قصتين: قصة إطار وقصة مؤطرة واصفا إياها بالمتماسكة.
وحول الواقع في الروايات الثلاث يقول: إنه يحضر على شكلين هما: المحاكاة وهو إنتاج عالم متخيل شبيه بعالم البشر، والثاني، هو عالم البشر نفسه أمكنة وشخصيات وقضايا.
ويتمثل العنصر الأول في وجود شخوص في الروايات الثلاث تشبه شخوص الواقع هيئات وأسماء وألقابا وكنى وعلاقات وأدوارا اجتماعية كما فيها أمكنة تشبه أمكنة الواقع الكائن خارج النص أشكالا ومواد وتأثيثا ووظائف وأن فيها أزمنة شبيهة بأزمنة البشر. أما العنصر الثاني فتمثله أمكنة وأزمنة وشخصيات وقضايا لها وجود في واقع البشر سابق لوجودها في الروايات. وقد عالجت «وجوه بلا أجنحة»، قضايا معاصرة عاشها المجتمع الواقعي كما انفردت هذه الرواية بطرح صريح لقضية المرأة وقضية حرية التعبير المكتوب وهي قضية أولتها هذه الرواية أهمية.
العلاقة بين الفن والواقع في الروايات الثلاث:
يقول العمامي: ليس غريبا أن يمثل الواقع في الرواية. ولعل العكس هو ما يبعث على الاستغراب وعلى سبيل المثال عمدت الرواية الجديدة الفرنسية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته إلى محاربة ما أسمته مفاهيم بالية. فهمشت الشخصية البشرية وأحلت محلها الأشياء. وقد بينت دراسة للوسيان غولدمان أن هذه الرواية أقرب إلى الواقع الذي أنتجت فيه من الرواية المسماة رواية واقعية. فهي تصور تصويرا فنيا تهميش الإنسان وتشيؤه في مجتمع رأسمالي جشع قيمة قيمه الربح المتأتي من الاستغلال والاستلاب. وهو ما يجعله يخلص لنتيجة مفادها أن لا معنى للسؤال: لماذا لا ينفك الفن الروائي عن الواقع؟ وأن السؤال الذي يتعين طرحه هو: ما العلاقة التي تقيمها هذه الرواية أو تلك مع الواقع؟ أهي علاقة تكامل أم علاقة تنازع؟
وينتهي إلى أن السرد في هذا النوع من الروايات التي تشبه رواية المحيميد بقدر ما يجلي هويات ويجملها يخفي أخرى بل قد يشوهها. وليس الأمر وليد إكراه فني بل لعله نتيجة موقف فكري يؤمن على نحو ما بامتلاكه وحده الحقيقة ومثل هذا الموقف قد ينعكس سلبا على القارئ الذي يجد نفسه سجين وجهتي نظر الشخصية الرئيسة والمؤلف. وقد يجد نفسه إذا ما امّحت المسافات بينهما أو كادت، سجين وجهة نظر ليست سوى ذاتية بالضرورة أي قاصرة حتما عن إدراك كامل أبعاد الواقع المصور. وهذا يعني أن استغلال الرواية لتمرير مواقف فكرية جاهزة يؤثر سلبا في فنية الرواية وهو ما لمسه في «وجوه بلا أجنحة»، حيث فنية الرواية تأثرت بمقالات مؤلفها الصحافية وهي مطولة والخطاب فيها صريح مباشر، تعليمي بينما الفن يقتضي التلميح والإيحاء. وقد عانت «شرق الوادي»، كما يقول من النقيصة نفسها. فالصفحات الكثيرة المخصصة للتاريخين السياسي والاجتماعي علاقتها بالمتن الحكائي غير وثيقة.
حيث يتبين من كل ما تقدم أن الروايات الثلاث منغرسة في عصر كتابتها وأنها عالجت القضايا نفسها حينا وانفردت بقضايا حينا آخر. وكل هذه القضايا متينة الصلة بالواقع الكائن خارج اللغة. وقد أكدت كل الروايات أن المجتمع المصور ليس مجتمعا راكدا إنما هو مجتمع حي تشقه صراعات طرفاها قوى الجذب وقوى الدفع.
ما يجعله يؤكد أن الروايات جهرت بمواقف أصحابها وبرغبتهم في التأثير في الواقع من خلال السعي إلى الإقناع بهذه المواقف عساها تسود في المجتمع الواقعي ولكنها كشفت في الآن نفسه أن العوالم المصورة ليست الواقع وإنما هي الواقع منظورا من زاوية أحدية ضيقة. فالروائيون صوروا ما صوروا من وجهة نظر الشخصيات المقربة إليهم قربا كادت معه المسافات الفاصلة بينهما تمحى بل لعلها امّحت أحيانا، وفي المقابل غيبت وجهات نظر الشخصيات المكروهة وأغلقت دون القراء عوالمها الداخلية وهواجسها الفردية، وما قد تكون عاشته من صراعات بين ما تمارس وتقول وما به تحلم وإليه تطمح.
واختتم بأن رفض الآخر وآرائه رفضا مطلقا يكشف أن الروائيين يستندون فيما يكتبون إلى مواقف يقينية عن حياة غاب فيها اليقين.