تظهر بين آنٍ وآخر نسخٌ عربية مقلدة - بكسر اللام - لبرامج تلفزيونية أجنبية، كما في برامج (من سيربح المليون)، و(من جديد)، و(الرابح الأكبر)، و(آراب قوت تالنت)، و(آراب آيدول) وغيرها.. ولعلّ مجموعة قنوات mpc هي الأكثر استنساخاً لمثل هذه البرامج.. إن هذه الإمبراطورية الإعلامية الكبرى (مجموعة الـ mpc) كما يبدو تتبنى حزمة من القنوات المختلفة، شطر منها عربي وشطر آخر غربي أمريكي، فالشطر العربي يظهر من خلال قنوات من مثل (العربية) و(mpc1) و (mpc مصر)، فهي قنوات عربية بامتياز تتناول الشأن اليومي والسياسي العربي والفني بشكل واضح وظاهر، وارتباط أسمائها بالبعد العربي واضح جداً، سواء أكان ذلك الارتباط لغوياً (كما في قناة العربية) أو جغرافياً (كما في mbc المصرية والأولى التي هي اختصار لكلمات: مركز بث الشرق الأوسط).. أما شطر القنوات الغربية الأمريكية فيظهر في أربع قنوات لبث الأفلام والبرامج الأمريكية على مدار الساعة، وهي قنوات (mbc2- mbc4- mbc max - mbc action).. فهل يعني هذا أن قنوات هذه المجموعة بشقيها العربي أو الأمريكي تعمل على ترسيخ ثقافة التعايش بين العرب وأمريكا عند المشاهد العربي؟.. هل أنها تتبنى إهمال مظاهر الخلاف والتنافر، واعتماد لغة تتجنب الصدام والخصام؟.. أتُراها تحمل هاجس التوفيق بين القيم العربية والقيم الأمريكية، بين الهموم القومية والوعي الأمريكي؟، أم أنها مجرد قنوات غايتها الأولى والأخيرة هي الترفيه البريء المجرد البعيد عن أية أجندات أخرى؟.
ثم ماذا عن البرامج العربية المقلّدة (بكسر اللام) لبرامج أمريكية، تلك التي أشرتُ لبعضها في مستهل المقال؟.. أيمكن أن تعدّ هذه البرامج مجرد تقليد (بريء) ساذج؟.. أم أنها يمكن بأن تكون امتثالاً ثقافياً يستصحب معه خلفية فكرية (إيديولوجيا) ينطلق منها صانعو البرنامج؟.. سأحاول في هذي السطور الوقوف عند أحد البرامج الشهيرة التي تقدمها قنوات mpc (وهو برنامج آراب آيدول Arab Idol الذي تعرضه المجموعة على قناتيها الأولى والمصرية) محاوِلاً أن أتلمّس الأجندة الفكرية التي يتبناها صانعو هذا البرنامج مستعيناً في ذلك بروح النقد الثقافي.
إن هذا البرنامج آراب آيدول Arab Idol يجمع في اسمه بين حضورين بارزين، الحضور العربي والحضور الامريكي، الحضور العربي يظهر جلياً من خلال كلمة (أراب) التي هي اسم العرب في النطق الإنجليزي، ويظهر الحضور الأمريكي من خلال اعتماد اسم البرنامج كما ينطق في اللغة الإنجليزية، ويظهر الحضور الأمريكي أيضاً من خلال كون هذا البرنامج استنساخاً لبرنامج أمريكي هو (أمريكان آيدول).. إن العنوان والمحتوى يؤكدان بشكل واضح على محاكاة عربية لشكل أمريكي، وهذه المحاكاة ربما تلخص هدف البرنامج الرئيس الذي يحاول إبراز المواهب الغنائية العربية من خلال قالب أمريكي، أي أنه يحاول إبراز المحتوى العربي في القالب الغربي، إنه - أعني العنوان - باختصار يسعى لصوغ المضمون العربي بلغة عالمية في شكل أمريكي، وهو ما يظهر بشكل جلي في عنوان البرنامج، فاسم البرنامج لم يُكتب باللغة العربية رغم كونه موجهاً للعرب وهدفه كشف مواهب عربية، وإنما جاء ما يدل على العرب في اسم البرنامج مصوغاً بلفظ إنجليزي، ومزروعاً وسط الصوغ الأمريكي الأصلي لاسم البرنامج Arab Idol .. إن العرب في الاسم لا يظهرون باللغة العربية، ولا باسم عربي للبرنامج، وإنما كما يُنطق لفظهم بالإنجليزية محشوراً وسط الاسم الأمريكي.. فهل هذا تجسيد مصغر لرسالة البرنامج، الذي يسعى إلى تذويب المحتوى العربي وسط الشكل الأمريكي، ويتغيا كسر حالة التصلب والانكفاء العربي ليصبح منساباً وسط المحيط الأمريكي.
وهو ما يظهر أيضاً من خلال إصرار القناة على عدم تغيير اسم البرنامج رغم اللغط الذي ثار حوله عندما تم الإعلان عنه، ذلك أن كلمة (آيدول) قد تبدو في الثقافة العربية والإسلامية مرفوضة، لأن من معانيها الوثن والصنم .. ومع هذا بقيت هذه الكلمة لأن القناة أصرت على أن الكلمة تحمل معنى مجازياً يعني (محبوب) العرب.. رغم أن هذا اللفظ بمعناه الحرفي يتعارض مع الدين الإسلامي والوعي العربي المعاصر، فهل تم الإصرار عليه وتحمُّل اللوم والنقد للتأكيد على الرغبة في التحرر من صرامة اللفظ المختلف، والانعتاق من نصوصية مفاهيمه، إلى تطويع هذا الاختلاف في خدمة قيم المعاصرة والتعايش؟.
إن المحتوى العربي حاضر في البرنامج من خلال الهويات العربية لجميع المشاركين في البرنامج، سواء من المتسابقين أو الجمهور أو هيئة التحكيم، ومن خلال التركيز على الأيقونات الغنائية العربية الحاضرة أو الغائبة، ومن خلال حضور الشعر العاطفي الغنائي الضارب بجذوره في العقل العربي منذ المقدمة الغزلية في القصيدة الجاهلية وحتى القصيدة الغنائية الشعبية اليوم.. إن محاولة استحضار الهوية الوجدانية العربية في البرنامج لا تخفى على أحد، وكذلك يظهر المحتوى العربي عبر تمثيل المتسابقين لمعظم الدول العربية، وعبر حضور قضية العرب الأولى (قضية فلسطين) من خلال الفوز الرمزي الذي حققه متسابق فلسطيني في النسخة الثانية، ففلسطين هي قضية قومية وشأن عربي بلا جدال.
لكن هذا المحتوى العربي كيف يتم عرضه في البرنامج؟.. أهناك تعمد لإبرازه في الشكل العولمي والقالب العالمي؟، أي بما يخرجه من الخصوصية العربية إلى المعايير العالمية، هل ثمة حرص من البرنامج (خصوصاً في نسختيه الأولى والثانية) على أن يقدم قالباً واحداً يبرزه في (معظم) المتسابقين ولجنة التحكيم أيضاً ليصهر فيه شكلاً جديداً (عالمياً) للشباب العربي؟،. فليس سراً أن جميع النساء اللاتي ظهرن في البرنامج إن في التحكيم أو التقديم أو الغناء لم تظهر من بينهن محجبة على الإطلاق، رغم أن الحجاب يُشكّل ما لا يقل عن 60 - 70% من النساء العربيات، فلِم يغيب هذا الجانب الحاضر لدى المرأة العربية؟.. وليس سراً أيضاً أن معظم الرجال والنساء الذين ظهروا كانوا يلبسون الزي العالمي وليس لباساً عربياً محلياً، وقلّ أن يظهر فيهم رجال بشوارب أو لحى عربية خالصة، وهذا كان واضحاً بشكل كبير جداً في النسخة الأولى والثانية (تم التحرر من هذا في النسخة الثالثة على نطاق ضيق جداً). والأعجب من هذا كله أن الفائز الفلسطيني الذي يخرج ليتغنى بالزي العربي الفلسطيني الكوفية (أو الشماغ كما يُسمى في الخليج) يخرج ليتغنى به وهو يرتدي الجاكيت والبنطال!!.. فهل ثمة محاولة لإيلاج الروح والشخصية العربية وتطويعها داخل الشكل العالمي، أثمة محاولة للتخلص من صرامة وخصوصية العروبي ليتناسق ويتساوق وينسجم مع الشكل العالمي؟.
وهل يعدّ مقبولاً استنساخ الجميع في شكلٍ واحد بدلاً من اتباع المنطق اليومي الذي يميل إلى التنوع والتعدد؟. أليس من الأولى أن يظهر في البرنامج تمثيل كافة ألوان المحيط العربي وأطيافه بدلاً من الحرص على صهر التنوع العربي في قالب واحد؟.. أليس هذا هو الأولى والأكثر واقعية؟، أيمكن أن يكون في البرنامج رغبة في صناعة هوية عربية جديدة وفق مقاسات محددة؟.
إن السياق الذي أفرز هذا البرنامج يكشف ظهوره وسط تصاعد أجواء العداء والخصومة بين العربي والغربي، وبعد تشكّل كيانات عربية وجزر إيديولوجية معزولة صلبة منكفئة على ذاتها ومنقطعة عن المحيط العالمي، إلى درجة وصلت فيها نبرة العداء بين الجزر العربية ذاتها، أي بين العربي مع العربي والإسلامي مع الإسلامي كما في الخطابات الطائفية مثلاً.
هذه الحال وهذا الإحباط من حالة التشرذم والتيه العربي ربما كان دافعاً لدى صانعي البرنامج إلى تصنيع حالة من الوحدة في الشعور العربي والاهتمام المشترك.. ولم يكن ذلك ممكناً في نظر صانعي البرنامج إلا عبر الفن الذي تختفي فيه الإثنيات والجنسيات والأيديولوجيات والعرقيات، وعبر اختيار برنامج فني يوحدنا نحن العرب - كما يفكر صانعو البرنامج ربما -.. برنامج يسعى في نظر القناة إلى صناعة مسار جديد مسالم للشاب العربي يغرس فيه ثقافة التنافس السلمي بدلاً من التنافر الدموي، إلى إعداد الشباب العربي الذي أصبح يلقي نفسه في أتون العنف والخسف والقتل والتفجير والتدمير لقيم التعايش الحضاري وثقافة العولمة.. إن أجندة البرنامج الظاهرة هي الإصلاح بالفن لما أفسدته السياسة والأيديولوجيا، وذلك عبر استثمار الصناعة الإعلامية التي صارت معملاً لإنتاج المعاني وتصنيع القيم أو إعادة تدويرها وتحويرها لتشكيل ثقافة جديدة ووعي جديد.
إنها محاولة لإعادة إحياء الهوية الوجدانية العربية تحت مجال اهتمام موحد، محاولة تعكس حالة من الصراع بين الرغبة في الوحدة والهم المشترك، وبين الواقع الذي يدمّر كل إمكانية لتحقيق ذلك سياسياً ودينياً واجتماعياً.. إن قناعة صانعي البرنامج تذهب على ما يبدو إلى أن الواقع العربي الحالي يقول إن ثقافة الحرب والخصام بين الشرق والغرب لم تجن غير الوبال على الطرفين كليهما، ولذا جاءت أجندة البرنامج الفكرية محاوِلة تذويب الخلاف والخصام وصناعة مسارات التوافق والانسجام بين الأشقاء العرب.. فإلى أي مدى نجح البرنامج في إيصال رسالته؟.. وهل يعكس البرنامج فعلاً همّ (التعريب) عند صانعيه، تعريب الاهتمام والشعور العربي المشترك؟، وإذا كان ذلك كذلك، ألا يُخشى أن يتحول هذا الهم إلى نوع من (التغريب) عندما يحشر وسط برنامج غربي أمريكي يمتثل في كثير من ممارساته لقيمهم لا قيمنا؟. أترك الإجابة عن هذه التساؤلات للقارئ والمشاهد العربي.