كنت قد ختمت المقال السابق في الحديث عن علاقة الفكر بالنحو بأن القدماء رأوا أن النحو أداة فاعلة في تكوين العقل العربي، والطريقة التي يتم بها البحث عن المعنى من خلال تقليب الكلام على وجوهه الإعرابية المختلفة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن ما الانعكاس الذي أدته هذه النظرية على البناء الفكري أو على بناء التفكير أجمع، كيف أصبحت طريقة الإنسان في النظر إلى الأشياء وترتيب أفكارها، وإقامة العلاقات بينها متأثرة بهذه النظرية النحوية، وجعلت الإنسان العربي مستجيبا لهذه الصنعة التي طرأت على اللغة وهي من قبل لم تكن موجودة.
يبحث النحو في مواقع الكلمات داخل الجملة، فينظر في الكلام ويفسر علاقة كل كلمة من أجزائه بالتي قبلها والتي بعدها، ويصنفها مرة مبتدأ ومرة أخرى خبرا، وثالثة فاعلا أومفعولا به كما يرى هو حسب التقسيم النحوي المعروف، ويذكر اللغويون أن النحو نظام خاص بالجملة، فهو يبحث في تركيبها ولا يخرج عمله عن ذلك، فالمبتدأ والخبر، والفعل والفاعل والمفعول به والمضاف إليه، والنعت والحال والتمييز، والبدل والعطف كلها عناصر من عناصر الجملة التي هي عمل النحو. أما إذا تجاوز الحديث هذه الجملة فإن الدارسين يرون أنه في هذه الحالة يتجاوز النحو إلى علم الدلالة أو يخرج عن النحو الذي وظيفته بيان الخطأ والصواب إلى مجال آخر يتصل بالمعنى والدلالة المرادة من لدن المتكلم، وقد سماه الدارسون بعلم اللغة النصي بمعنى أنه يبحث في النظام اللغوي الذي يحكم النص كله.
وعلى الرغم مما يذكره الدارسون من أن الجملة هي غاية عمل النحو، فإن النحويين القدماء قد بسطوا نظامهم اللغوي النحوي على الجملة أيضا، وليس على المفردة وحسب، فقسموا الجمل في موقعها إلى قسمين:
1-جمل لها محل من الإعراب.
2-جمل لا محل لها من الإعراب.
والجمل التي لها محل من الإعراب هي جمل تقع موقع المفرد، كما يقولون، والجمل التي لا محل لها من الإعراب هي جمل لا تقع موقع المفرد، بمعنى أن علاقتها بالجملة التي قبلها علاقة انفصال واستقلال، وعليه فإن المعنى كثيرا ما يكون مستقلا. في حين أن الجمل التي لها محل من الإعراب تقع في موقع تواصلي من الجملة التي قبلها، وهي في الغالب جملة مكملة من حيث المعنى للجملة السابقة وعلى هذا يصبح النص متظافرا فيما بينه.
لكن الجمل التي لا محل لها من الإعراب على وجه الحقيقة تنقض هذا التظافر الذي يطمح النحو أن يقيمه بين أجزاء الكلام، ذلك أن الجمل التي لا محل لها من الإعراب لا ترتبط بما سبقها ولا بما لحقها برابط، وليس هناك معيار محدد لإيراد هذه الجمل، ثم هي لا تفرض علاقة محددة باعتبارها مستقلة عما قبلها على مستوى التركيب النحوي، وعلى مستوى التركيب الدلالي.
ولو وازنا بين الجمل التي لا محل لها من الإعراب والجمل التي لها محل لو جدنا أن التي لا محل لها أكثر أصالة واستقلالا في الوجود من الجمل ذات المحل الإعرابي، وهي التي تؤلف الكلام بوصفها قادرة على الوجود دون غيرها من الجمل، فالجملة الابتدائية التي يبتدئ بها الكلام لا محل لها من الإعراب، وعليه فكل جملة لا ترتبط بما قبلها يمكن أن تكون ابتدائية، وتوجد لها معنى ووجود من خلال هذا الوصف النحوي السليم الذي يسوغ وجودها في هذا الموضوع، وكذلك الجملة الاعتراضية، وجملة صلة الموصول التي هي صورة أخرى من صور الجملة الابتدائية. وعلى هذا لا يصبح الربط بين الجمل قائما على الربط النحوي بقدر ما هو قائم على ربط المعنى بين الأفكار وأجزاء النص المكتوب. وعلى هذا فإن التحول من الجمل التي ليس لها محل من الإعراب إلى الجمل ذات المحل يعني تغيرا في طريقة التفكير، وربطا للجمل فيما بينها برابط يجعلها مكملة لبعض وذات علاقة جذرية تركيبية فيما بينها، ويعني أن العلاقات النحوية بأن تصبح الجمل مترابطة فيما بينها ويكمل بعضها بعضا من الناحية النحوية قد فرض نفسه على طريقة التفكير، فأصبح المتحدث يسعى للبحث عن نوع من العلاقة النحوية الواضحة بين أجزاء جمله، ويستبعد الابتداء بالجمل التي لا تتصل أفكارها اتصالا بينا بما سبقها.
هذا الأثر للنظام النحوي على النظام اللغوي ثم الفكري نجده في طريقة الكتابة والكلام في اللغة العربية عند الموازنة بين نص لغوي وجد قبل النحو ونص آخر وجد بعد الأنظمة النحوية، ففي خطبة حجة الوداع للنبي- صلى الله عليه وسلم- نجد أن الجملة الابتدائية هي التي تسيطر على نظام الكلام، وهي الجمل التي تستقل عما سواها وتؤسس لفكرة جديدة. يبدو ذلك في تتبع أجزاء الخطبة كما في قوله- صلى الله عليه وسلم-:
«يا أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا...
وقوله في صدر الخطبة:
«وإن ربا الجاهلية موضوع، وأن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية».
فكل هذه الجمل ابتدائية لا ترتبط بما قبلها بنعت ولا خبر ولا حال، وهي تتصل بالمعنى العام للكلام ولكنها توازيها بالقيمة والموقع، فجملة «إن دماء الجاهلية موضوعة» توازي بالقيمة المعنوية وبالموقع الإعرابي الجملتين السابقتين، وليست تفريعا لهما أو نعتا لعنصر فيهما، أو حالية لحدث وقع فيهما. وهو ما يعني إمكانية التنقل بين هذه الأفكار المتوازية في منتصف الخطاب دون مراعاة لما سبق من أفكار أو تتميم للفكرة الأصلية وإنهاء للحديث عنها أو ارتباط دقيق بما سبقها مباشرة.
في مقابل ذلك نجد الكتابة المتأخرة تترابط في الجمل برابط نحوي، فيغلب فيها بشكل كبير الجمل ذات المحل من الإعراب مما يجعل العلاقات بين هذه الجمل تميل إلى الضبط والدقة، وهو ما يعني أن الأفكار في تسلسلها تقيم صلة معلومة سلفا لدى المتلقي. يقول أحمد حسن الزيات:
«الأدب عبير الروح، وشعاع النفس، ونضج العواطف، يتأثر حتما بما ينال أولئك من تطور الحياة وتغير الناس وتقلب الزمن. فهو يطيب ويخبث، ويضطرم أو يخبو، ويمر أو يحلو، تبعا لما يعرض للروح والنفس والعاطفية من أحوال الضعف أو القوة والفساد أو الصلاح، والانحطاط أو السمو».
هناك نجد الأفكار قد ترتبت ترتيبا دقيقا بحيث تجد لها موقعا نحويا، وهو يعني أن العلاقات النحوية قد فرضت نفسها على مواقع الأفكار وأصبحت الفكرة ترتبط بما قبلها من خلال العلاقات الإعرابية، وهو ما يحدد سلفا نمط نسيج النص ويؤثر عليه، ويضيق مساحة المحاولات التي من خلالها تترابط الأفكار، ويتمكن الكاتب/المتحدث من التنقل من فكرة إلى أخرى ما لم تكن واضحة العلاقة بما قبلها من خلال النظام النحوي المحدد الصارم بوصفه هو النظام الصحيح الذي ينبغي أن يسير المتحدث/الكاتب في حين أن النظام النحوي محاولة لتوصيف هذه العلاقات وتحديد أنماطها ولكنه ليس قانون التخطئة والصواب أو الجودة والرداءة.