يعاني المبدع؛ فيكتب نصَّه بعباراتٍ تتزاحم فيها المعاناة، ويجهد نفسه في اختيار لغته التي يرسم من خلالها لوحته الإبداعية، ويذهب وقته في انتقاء معانٍ ودلالات يرى أنها تجسِّد شعوره ومشاعره، مراعياً في كلِّ ذلك قيود الإيقاع بأنواعه وقواعد النحو والصرف والإعراب، حيث يحاول أن يوفِّق بين هذه القيود وبين انطلاقه تجاه رسم معاناته، وتحليقه في فضاءات الإبداع، ساعياً إلى إنتاج نصٍّ يعدُّه عصارة فكره ومرآة معاناته.
وحين يخرج النص من بوتقة فكر الشاعر إلى فضاء المشهد الإبداعي الذي يعيش في إطاره تبدأ العملية النقدية، و يأتي دور الناقد الحصيف الذي يقودها، حيث يفترض أن تبدأ القراءة الفاحصة لهذا النص، والكشف عن جمالياته، وتلمُّس مواطن القوة والضعف فيه، والإفصاح عن مكامن الإبداع في معانيه ودلالاته، والإفصاح عن دقته في اختيار مفرداته وألفاظه، وطريقته في صياغة أسلوبه ونظمه، وقدرته على إيصال معاناته إلى المتلقي بأدقِّ صورة وأجمل تعبير.
غير أنَّ المتأمل في غالب القراءات النقدية المعاصرة يلحظ بوضوحٍ ابتعادها عن تحقيق هذه الأهداف، ويرى أنَّ النقَّاد انحرفوا عن قيامهم بهذه الوظيفة، غير مهتمين بإنجاز هذه المهمات المفترضة التي تعدُّ من بدهيات الممارسة النقدية وأساستها التي لا يمكن تصورها دونها، وصاروا يتحدثون بأمورٍ لا علاقة لها بالنص، ويتكلمون عن نظرياتٍ نقديةٍ حديثة، ويتفلسفون بتحليلات تزعم أنها تقرأ في ما ورائيات النص، وتزيل اللثام عن خفاياه التي لا يمكن أن يجدها سواهم، وأنها تكشف عن دلالات قصدها المبدع لا يقدر على استكناهها غيرهم، وتجد في هذه القراءات العجب العجاب، والمضحك والمبكي، بل إنَّ بعض النقَّاد يتَّخذ من هذه النصوص وسيلةً لبثِّ أفكارٍ يعتنقها ومعتقداتٍ يؤمن بها، ويزعم أنَّ الدلالات والمعاني التي يتضمنها الخطاب الإبداعي تؤسس لهذه الأفكار حينا، وتُعدُّ دليلاً على صحتها حينا آخر.
ولا يمكن للمتأمل أن يخفي عجبه من هذا النوع من الممارسات النقدية، حيث يلحظ انحرافها شبه الكلي -إن لم يكن الكلي- عن سبر أغوار النص الإبداعي والتحليق في فضاءاته، والاعتماد على ألفاظه وملابساته في إنتاج دلالاته، كما لا يمكن له أن يكتم ضحكته الساخرة من تلك النتائج والفتوحات التي يصل إليها بعض النقاد، وهي في الحقيقة أوهام ومزاعم، لا دليل عليها لا من النص ولا من خارجه، وليت الإشكال يقف عند هذا، بل تجدهم يبنون عليها، وينطلقون منها، ويستدلون بها، وكأنها حقائق مطلقة اكتشفتها عبقريتهم الفذَّة، ووقعت عليها عقولهم المتوقدة، وما هي في الحقيقة إلا خزعبلات اخترعوها، وتفاهات خلقوها، حتى أضحت ظلمات بعضها فوق بعض.
وأعتقد أن هذه الظاهرة العجيبة والممارسات الغريبة ترجع إلى عدد من الأسباب الفكرية والاجتماعية؛ منها تأثر هؤلاء النقاد بالمناهج النقدية الغربية، واعتناقهم لكثير من أساساتها، وإيمانهم العميق بالعديد من مبادئها، مثل قضية (موت المؤلف) التي تخلق كثيراً من الإشكاليات عند الانطلاق منها في تفسير النص بشكل مطلق، دون معرف تامة بحيثياتها والمقصود منها، أقلها قطع السياقات التاريخية والاجتماعية والحضارية والإيديولوجية التي تربط ما بين المؤلف والنص، مما يسهم في غموض العمل الأدبي، وعدم فهمه على حقيقته، واستيعاب ماهيته، الأمر الذي يجعل الناقد يتخبط في تفسيراته، ويترنح في تحليلاته، ويأتي بـ(مُتخرِّمات) تظل عاراً عليه وعلى نقده أبد الدهر، فضلا عن إفسادها للنص، وتشويه وجهه الجميل.