لا بد لمن قرأ شيئاً في التاريخ، أو اطلع على روايات تعتمد على أحداث تاريخية، أن يكون قد وجد مصطلح «البربر» أو «البربرية» أو «البرابرة» في السرد التاريخي، أو الوصف الروائي لسمات تُنسب إلى تلك الصفة. فما جذور هذا المصطلح وأبعاده؟ أولاً، وقبل كل شيء، لا بد من الإشارة إلى أنه لا صلة لهذه المصطلحات بقبائل «البربر» الموجودة في المناطق الجبلية في شمال وشمال غرب القارة الإفريقية، إلا من باب المجاز الذي وجد طريقه إلى صنع الهوية؛ وهم، بالمناسبة، يسمون أنفسهم «أمازيغ».
كان أول من أطلق هذا المصطلح هم الرومان، وكانوا يطلقونه على الشعوب غير المنتمية إلى الإمبراطورية الرومانية والمعادية لها، وخاصة في القارة الإفريقية، حيث ينازعون الرومان على السيادة في بعض مستعمراتهم في إفريقيا، وعلى وجه الخصوص قرطاجة (Cartago). وهو مصطلح لا يعني أحداً بعينه، بل يعني «غير متحضر» أو معادياً للدولة ومؤسسات الإمبراطورية، تماماً مثلما كان اليهود يطلقون على من سواهم «قوييم» (الأغيار)، لأنهم لا ينتمون إلى الحضارة، التي كانت تمثّلها الدولة اليهودية والشعب اليهودي (شعب الله). وقد أخذ عنهم العرب المصطلح مع تحريف يتعلق بحذف علامة الجمع العبرية في النهاية، والاستعاضة عنها باسم الجنس، لتصبح «القوم»، وهي في الأصل للإشارة إلى غير المنتمين إلى المنطقة أو القبيلة؛ لكنها عممت لاحقاً لتصبح دالة حتى على الجماعة الذاتية نفسها، أو مصطلحاً محايداً للتعبير عن الجماعات المختلفة، ومنها اشتقت كلمة «القومية»، التي أصبحت مصطلحاً منافساً للوطنية في حقبة الانتماء إلى العرق العربي خلال الخمسينات من القرن الماضي.
على أي حال «البربرية» لم تتحسن سمعتها، أو تتغيّر دلالاتها لدى الشعوب التي استخدمتها. ففي كثير من كتب الأدب ونصوص التاريخ، كانت استخداماتها مرتبطة بالعنف والوحشية، والبعد عن الحضارة، بل في كثير من الحالات يكون الهدف من إيرادها في الوصف التعبير عن الكراهية للأقوام التي يشار إليهم بها، وعدم قبول سلوكهم الجمعي، ولا ثقافتهم التي أتوا بها إلى منطقة من المناطق. فقد أصبحت كتب التاريخ التي كتبها العرب عن المسيحيين الذين اشتركوا فيما سماه المؤرّخون العرب «الحروب الصليبية»، على الرغم من أنها كانت بين من كان رمزهم الصليب، والفريق الآخر المسلمين (من عرب وكرد وشركس وأتراك)، تمتلئ بوصف أولئك الأعداء بمصطلح «البرابرة»، وهو بالطبع في هذه الحال ليس عرقياً، بل منصبّ على تصنيف السلوك الهمجي، الذي كانت عليه جيوشهم من وجهة النظر الإسلامية.
ولو رجعنا إلى مؤرِّخي الحقبة التالية لتلك الحروب، مثل المؤرِّخ الإفريقي ابن خلدون، فإننا لن نجد هذا المصطلح دالاً على معاني سلبية، بل يشير في كثير من المواقع إلى الأعراق أو الفئات التي صنعت التاريخ الإسلامي؛ فيعدد: العرب وأهل السند والهند والزنج والعجم والبربر ومن سواهم. فهذا يعني أنهم يتساوون مع القوميات أو أهل البلدان أو المكونات العرقية التي تشكل المنظومة الإسلامية. فهل زالت في ذلك العصر الدلالة السلبية للمصطلح، التي نشرها الرومان في أدبيات الثقافة الإثنية العالمية؟ ربما يكون ذلك، لكن الإشارة إلى «من سواهم» أو «من والأهم» أو «من وراءهم» فيه إقصاء ازداد لدى المؤرّخين المتأخرين، حتى أصبح أحياناً يدل على التهميش، والإشادة بالعنصر العربي المهيمن. وربما يكون ذلك أحد أسباب انهيار ممالكهم في الأندلس، حيث تغلب العناصر غير العربية على السيادة فيها. فمراجعة التاريخ والاستخدامات اللغوية الدالة على التصنيف والإقصاء مطلب ضروري جداً لنا في العصر الحاضر، إن أردنا أن نجتاز التحديات الكبيرة التي تقف لنا حاضراً بالمرصاد.