النافذةُ مستطيلةٌ خضراءُ بزاوية الرصيف، تجرحُ الناظرين إليها إذا ما كانت مغلقة، وإذا ما انفتحَتْ أخرج الجرحُ قيحاً؛ مرَّت عيوني تُحدّقُ فيها وخلفها، رأيتُ توأمين غافيين على سريرين، رأيتُ الرهبةَ تغسل الرصيف وما يحتوي في أحشائه، ويا ربّ كان كلاماً يهطلُ في مسمعي كما الوشك يتأبّد في الجلدِ، يُكْلِمُ النفسَ الطريّةَ: (أخَدِ البحر عُمْرُنْ)؛ لفّني منذ الخامسة يأسٌ يصارعني ما حييتُ، أغلبُهُ أحايين، ويغلبني حيناً.
*«سَلَبَ البحرُ المتوسّط في شقّه الطرابلسي روحهما وقذفَ بالجسدين إلى البرّيّة».
أيُّها المكلومُ بالحوتِ، المكلوم بنوافذ خضراء مستطيلة تُكشّف عن حُجراتٍ تحت حدّ الرصيف، ما زالت المروحة زرقاء تدور بسعفاتها المعدنية فوق السريرين، تدور المروحة القديمة الأولى: «في البدء قبل الكلمة كان الروح يطوف بالفكرة» وكنتَ تُجْبَلُ على مصارعة الحياة.
لماذا أخرَجُوكَ من دارتِكَ في ذاك النهار الموحش من شتاءِ طرابلس ومرّوا بذاكَ الزقاق، الذي يأبى إلاّ أن يكون طرفاً في حسابات نبضات القلب؟!
***
متن: عباءة تمّوز - 2006
سنَقْرَؤُكَ النَّهارَ أيُّها الليلُ اليَتِيمُ، الليلُ الذي أسرَفَ فِي السَّهرِ علَى بساط الجدلِ، يشقى بالأسئلةِ المقصلةِ، إِنْ كادَ - في غفلةٍ - يهوى في شبكِ الموتِ، أَو يدخُلَ في السَّاقِيةِ - العودِ لولا ضحكات ما أنكرَتْ وجهَهُ الوضّاحَ حينَ اشتدَّ الحزنُ بملامح الوجوه. وكانت المدن العربيّة تساقط كحبّات العقد الرومي المنفرط، فأين هي القدس - واسطة العقدِ؟
هو البابُ الغيابُ على وشكٍ للغناءِ غير مكترثٍ بقوانينِ المرور في شوارع الغيابة، وأزيزُ مفاصلهِ النُّحَاسيّةِ نشَازٌ معصومٌ عنِ العتابِ، قيل: بأمرٍ من قُضاة الغيابة رُكّبت هذه المفاصل النحاسيّة الصدئة.
*مَنْ يَعْتبْ على مَفْصَلٍ إِنْ ضاعَ صوتهُ فِي مُرافعاتِ الغيابة؟
هي العَتباتُ شاهدةٌ إنْ أذِنَ الحاجبُ، وإِنْ لم يأذَنْ فليسَ للضحايا من شهود.
سوفَ تسألُ العتباتِ عَنْ اسمِكَ حينَ تعود - يا هذا المنفي عَنْ نفسهِ - حتَّى تتذكَّرَ كيفَ كنتَ تَقِفُ النهارَ عليها، سوفَ تسألُهَا إنْ كانَت تحفظُ أسماءَكَ الأُولى حينَ ولدتْكَ الشَّمسُ فانتزعْتَ من نارهَا اسماً لشُعلتِكَ، حينَ ولدتْكَ الأرضُ فأنْبَتَتْ لكَ اسماً يروقُ أديمهُ في نضار الجنانِ، حينَ ولدتْكَ الطيورُ أغنيةً فِي بالِ الغصونِ، الخرافُ ناياً فِي رئة الرُّعاةِ، البحرُ صاريةً يأتمرُ الريحُ بأمرها، سوفَ تعودُ، فأنتَ تعرفُ أنَّ الموتَ قد أمهَلَكَ الدورات كاملة حتّى تنطق العتبة: أنّك كنتَ أميناً تقعدُ في العصاري عليها وترسم في خيالاتك دربَ العودة للقميص الفلسطيني.
ترتدي الغيابةُ فِي سهرتِهَا ثوبَ الشَّكّ، حينَ ترجُّ أحمالها الثِقَالَ تهوي في صحنِ الليلِ حكاياتُ السَّامرينَ بجدّة وطرابلس، ثُمَّ إنْ كشَّفَتْ عن ساقَيْهَا آمنَ العِلْمَانيّونَ منهم بالسّاقِ، ثُمَّ ضاعَ ثلث من الليلِ على حَيِلِ القوارير.
قبلَ ثلاثينَ سنة كُنْتُ هُنَا فِي حرزِ القيامة.
بعد ثلاثينَ سنة ها أنا ذا - هُنَا أَو هُنَاكَ - فمَا أدري كأنَّنا مَا كُنّا طيلةَ هجرتنا إلاّ فِي أتونِ التلاوةِ بين قرار وجواب.
هَا أنِّي أَهرُبُ ومعي امرأتِي، أُهرِّبُ ابنتيَّ عبر الطريقِ الساحليِّ التي بين طرابُلسَ ودِمَشقَ وأخافُ علَى سَمْعِهِمَا من صوتِ القذائفِ الإسرائيليّة. هي الطريق الساحليّة التي عبَرَتْهَا أُمّي ذاتَ نهارٍ دمويٍّ (........... حُذفَ المقطع الذي هُنا من المؤلّف تجنّباً لعدم إحراج قاضي الغيابة ورقابته والتزاماً ببنود اتفاقٍ يقضي بتأجيل طرح الوثائق والمستندات إلى الجلسات المغلقة وعدم نشره للعموم، فما تضمّنته من المعلومات قد تُشكل الفهم في إساءةٍ لكياناتٍ تهاوت، وأخرى بين شدّ وارتخاءٍ).
مرَّتَانِ فِي الحدودِ المُتَشَابهةِ، والمطارُ محتشدٌ بالمسافرِينَ إلى أيِّ بلدٍ.
ثلاثونَ عاماً يا حرز القيامة، وليسَ معِي من اليقينِ إلاّ زادٌ أشكُّ أَنْ يعينَ أسئلتِي فِي هذا الصراط المُهيب.
ثلاثونَ مرّتْ ولم تتَغَيَّرِ الحكاية.
هَرَّبتنِي أمّيَ من حربٍ مومسٍ عمياءَ إلى صحراءَ لا تُحبُّ الأسئلة. قدرٌ ساخرٌ في اللغةِ؛ يا لتضادّ ومفارقة بين كلمتين: «أسئلة ومقصلة»، وأنَا الآنَ أُهرّبُ ابنتيَّ فوقَ «هُناكَ، أَوْ هُنا» على الطريقِ ذاتها؛ أيُّ نردٍ متشابهٍ هذا العمهُ المُؤبَّدُ بالعَوْدِ! للغيبِ مُوْسٌ لا يصدأُ مِنْ حلاقةِ النفوسِ الشّاعرة.
ما الذي أَتَى بِي إلى هذا الكلامِ ؟!
تَشجّعنا صباحاً بعد غارة فَجريَّةٍ، كُنّا قدِ استيقظنَا على صوتِهَا الهادر، وقدْ هزّ الأرضَ ورجَّ السَّماوات. نظرتُ إلى صاحبتي ندى؛ قالَتِ: «الأَمْرُ لَكْ».
قلتُ: «الآنَ إِذاً، والأمرُ لصاحبِ الأمرِ».
وطفقَ على رُوحِي من اليقينِ المُعتَّقِ في خابيتي ما يُسْنِدُ استقامتِي، ويزيحُ القلقَ إلى حين.
*سأنزلُ إلى (التلِّ) الذي يُضارِبُ في بورصة السَّائقينَ المُتَّجهينَ إلى دمشقَ، كَي اتَّفقَ مع أحدهم...
* وَ.... ودَّعْنَا الأهلَ على عجلٍ، ودّعنا الأبواب والأحجار.
* وأذْكُرْ فِي الكتابِ الأحبابْ
* لكِ اللهُ يا دمشقُ، لكِ اللهُ يا أمّ رُوحي.. يا جِلّقُ.. ها إنّي أتذكّرُكَ الآنَ وأتوبُ إلى نارٍ في روحي تتَّئدُ، فهذا المآلُ اليوم يذبحُ كُلّ عربيٍّ مجبولاً بالعشقِ الشآميّ، ومنذ متى كان القلب عربيّاً إذا ما ضمّ في غرفاته: (حجاز ونجدٌ،ويمنٌ وشآمٌ)
كان الطريقُ الساحليُّة مِنْ جهةِ طرابُلْسَ الممرّ والمنفذ الأخير الذي لم تقصفهُ إسرائيل الخائفة على جنودها من مثلّثات الجنوب.
«هل تقصفُ إسرائيل الجسرَ قبل عبورنا إيّاه؟»
كان الشكُّ يتضاءلُ عند اشتداد الغارات، فهذا اليقينُ الذي يتوارى في الرخاء خشية أن يتناقص فلا يصمد في ساعات الضيق، كان حاضراً بزاده وزوّادته مَعِيناً ومُعيناً:
أَشْبَكْنَا يدينَا: «لَمْ يَعُدْ من خيارٍ سوى الأمل واليقين بأنَّنا ناجون»، ثُمَّ مَا إنْ بدأنا في الطّريقِ السَّاحلِيّة المكشوفة لنسور الأفق، انقلبَ كلّ قلقٍ إلى هدوءٍ أمينٍ. كانَتْ أَنْبَاءُ الجَنُوبِ تُسْكِنُ النَّار فِي القلوبِ، والجنُوبُ حَيٌّ، وهذا القلبُ المضطربُ حيٌّ، وكلّ ما بين لبنان وسوريّة حيٌّ، فما الذي حلّ في كيمياء الدماء قد أبيحت كلّ هذه الدماء اليوم بين هذين الروحين الجسدين؛
كانَ القلبُ حُرّاً من أثقال الحريّة حين تؤزّه رغبةً أن يتحرّر فتزيده أسراً على أسرٍ، حتّى وصلنا الحدود أو كأنّ الحدود الشآميّة لعزّة في نخوتها ومحبّتها قد أقبلَتْ علينا وجاءت إلينا؛ إذَّاك تذكّرتُ أمّي هُنَا في حرز القيامة؛ تذكَّرت ثلاثينَ مَضَتْ: (بين 1976- 2006).
حينَما عبرْنَا الحدودَ لفَّنِي -بعدَ أَمْنِي- يأسٌ عظيمٌ، وعاد القلبُ مأزوم الركبتين تثقله حمولات الحريّة.
ما الذي جاءَ بِي إلى هُنا؟ ولستُ أدري الفارقَ بين هُنا وهُناك.
إلى هذا الحدِّ كانَ لِي قدرٌ من العِنَايةِ، إلى هذا الحبِّ كانَ الغيبُ قريباً.