وأولاهما «المكتبة العامة» التي حظيت باهتمام من الحكومة فجعلتها جزءاً في التخطيط التنموي، ورصدت لها ميزانيات كبيرة، ووجهت إليها الموظفين الأكفاء، وزودتها بآلاف العناوين فكانت نوافذ فكر ومعرفة على امتداد البلاد، وتجاوز عددها ثمانين مكتبة أدارتها «وزارة المعارف» سابقاً، وتوثقت علاقتها بالمدارس والجمهور، وتناولتها دراسات علمية متخصصة، ثم آلت إلى الإهمال، وجنت عليها الوزارة في آخر أيامها فتركتها في مواقع بعيدة عن التحولات العمرانية والتجمعات السكانية فغدت ثكنات معزولة بائسة بلا مرتادين، وتمادت الوزارة في تهميشها وتغييبها فلم تخضع للتزويد بالإصدارات الحديثة، ولم تختر لها مواقع أخرى يفرضها التمدد العمراني، وأوكلت إدارتها إلى بعض التربويين من أصحاب المشكلات الوظيفية والمخالفات الإدارية تنفيهم إلى المكتبات العامة لتعزلهم عن الميدان التربوي!.
نشأت بعد ذلك وزارة الثقافة والإعلام قبل عقد من الزمن، فانتقلت هذه القطاعات المتهالكة النائية مكاناً ورسالة إليها فحافظت على طواقمها، وترهلت، وغابت عن الوعي تماماً رغم حضورها في خطط التنمية وتقارير الوزارة السنوية وخطة التنمية الثقافية التي صدرت ورقياً، ولم تتجاوز حدود ذلك.
وتبدو وزارة الثقافة متورطة في هذا المجال حيث تهرّبت من تولي ملف مكتبة الملك فهد العامة بجدة، وصرح مسؤولوها عن ربطها إلكترونياً، ولم يحدث شيء من هذا، ومن زار مكتبة من هذه السلسلة التقليدية يعرف مدى الهدر المالي والإداري الذي يذهب دون أثر، ويأسى على أعداد الموظفين الذين لا عمل لهم في حين تشتكي قطاعات الثقافة الأخرى من قلة العاملين المتفرغين.
ويظن بعض منسوبي هذا القطاع أن عصر المكتبة العامة انتهى وأفل نجمها، وهو ادّعاء غير حقيقي ومؤسف في آن واحد، فقد تغيرت القواعد المنظمة لعمل المكتبة العامة، وتبدلت رسالتها الثقافية والاجتماعية وطرائق تقديم الخدمة، والتواصل مع المستفيدين؛ ولن يعي ذلك إلا من أهّلته الجهة المسؤولة عنه وهيأت له الموقع المناسب، والأوعية العصرية، ووسائل الاتصال، وبرامج الاستقطاب الحديثة.
وثاني المكتبتين «المكتبة المدرسية» التي ذهبت طي التغييرات الهلامية فيما يشبه الغرض النبيل دون تخطيط وتأن يتطلبه الميدان التربوي وتقاليد العمل فيه، وقد كانت المدارس تضم مكتبات صغيرة، ويتم تزويدها سنوياً بالكتب والمجلات ووسائل التعلم الحديث، واستمر الوضع طيلة تولي الوزير المثقف عبد العزيز الخويطر «وزارة المعارف»، وحدثني مثقفون أثق فيهم عن اتصالات كانت تردهم منه لتزويد المكتبات المدرسية بمؤلفاتهم.
ثم أتى زمن رفعت فيه وزارة التربية والتعليم شعار تحويل المكتبات المدرسية إلى مصادر للتعلم استجابة لتحولات العصر لكنها للأسف فقدت كثيراً من خصائصها كمكتبة متخصصة وغاب عن عنها التزويد، وأسندت أمانتها إلى من سمّتهم «أمناء مراكز مصادر التعلّم» من غير المتخصصين في علم المكتبات والمعلومات، ولم يعرف كثير منها الشكل العصري من وسائط إلكترونية وشبكات اتصال، ولم يحسن أمناؤها تدريب أبناء المدارس على العمليات الجديدة لتلقي المعلومات وأدبيات البحث عن المعرفة؛ وهذا مما لم تستوعبه المؤسسة التربوية جيداً.
هنا يبدو الحديث مناسباً عن الدور الثقافي والحضاري الذي قد تؤديه هاتان المكتبتان بمد يد التآلف والفهم والتنفيذ إلى «المشروع الثقافي الوطني لتجديد الصلة بالكتاب» الذي تتبناه مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض فلن ينجح مهما أُوتي من دعم إن لم يجد رعاية وفهماً من المكتبات العامة والمكتبات المدرسية... فهل يفعلون؟