(بنق بانق) الذي حدث للمعرفة في الحضارة العربية لا يختلف عن (بنق بانق) الكوني الهائل، كلاهما ما يزال في جوانب منه لغزا محيّرا ، وكلاهما خلق تأثيرات هائلة، وكلاهما ما يزال مختبرا للنظريات المختلفة التي تقاربهما دون أن تصل إلى الطاقة السوداء الكامنة في هذين الانفجارين...
لقد استطاع العرب في فترة امتدت من القرن الثاني الهجري إلى نهاية القرن الرابع الهجري إنشاء منظومة علمية متطورة ومبدعة كانت بدايتها الأولى في علوم اللغة ثم توسعت لتشمل كل العلوم من الفلسفة إلى الفيزياء إلى الطب إلى الرياضيات إلى غير ذلك من مجالات المعرفة.
وكي نوضح طبيعة غموض الانفجار المعرفي في علوم اللغة الذي هو البداية الأولى لهذا الانفجار المعرفي نذكر أن التأليف عادة ما يتم تدريجيا في عملية تراكمية تكتمل فيها العلوم جيلا فجيلاً، فمثلا كان المفترض أن تبدأ المؤلفات برسائل قصيرة في اللغة وفي النوادر من غير ترتيب يذكر أو بترتيب بدائي ليتطور العمل بعد ذلك إلى وضع معاجم اللغة وقواعد اللغة ، ولكن ما تم أن العمل المعجمي (العين) ، و(الجيم) ، والعمل اللساني التركيبي والعمل الصوتي (الكتاب) تم تقريباً في الفترة ذاتها ، ولذا ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن نهضة العلوم اللغوية إنما تمت تزامنيا لا تعاقبياً دون أن يفسر سبب ذلك التزامن ومدى إمكانية حدوثه ، أما بعض الباحثين فاكتفى بتسمية هذه الفترة بالفترة المعجزة ( هكذا) دون أن يفسر لماذا كانت معجزة.
إن الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يعد من أكثر العلماء تمثيلاً لهذه الفترة، قد يكون عبقرياً متفرداً وشاذا عن علماء عصره، ولكن هذه الطفرية أو هذه الانفجارية تمثلت أيضاً في علماء غيره كيونس والفراء وسيبويه، وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيدة وغيرهم ، فكيف ظهر هذا لانفجار وما السر وراءه؟ وهل يمكن أن يحدث مرة أخرى ليحدث نقلة علمية انفجارية متجاوزة إلى القرن الثاني والعشرين.
لهذه الفترة العلمية الذهبية عدة عوامل أسهمت في الانفجار الهائل الذي حدث فيها ثم انكمش بعدها وظل منكمشاً على نفسه حتى الآن ، وتنقسم تلك العوامل إلى عوامل مساندة ، وعامل واحد رئيس أشعل فتيل القنبلة العلمية ، وسأبدأ بالعوامل المساندة ، ثم انتقل إلى العامل الرئيس.
فمن أهم تلك العوامل المساندة مايلي:
1- الوضع السياسي المستقر نسبيا وطبيعة السياسيين الذين بيدهم السلطة في ذلك الوقت، حيث استطاعت الدولة العباسية أن تفرض سيطرتها، وحرصت على تغيير قواعد الوعي من الوعي الأعرابي الذي يمثله العصر الأموي إلى الوعي العربي حينما امتزاج بالأمم الأخرى، ليس هذا فحسب بل كان الخلفاء والأمراء والنخبة القريبة منهم علماء بكل ما تحمله الكلمة من معنى وتحولوا إلى ساسة إذ كان الحرص كما هو معروف على جلب أفضل الأساتذة لهذه النخبة لتزويدها بحصيلة علمية فذة، ولذا كانوا مشاركين في العلم عن طريق تشجيع الحركة العلمية، وعن طريق عقد المجالس والمناظرات بل عن طريق التأليف أحيانا نموذج (ابن المعتز وعلم البديع).
2- الوضع الإيديولوجي المتسامح نسبيا، فقد خف استغلال الإيديولوجيا من أجل السلطة في هذا العصر ومال الناس إلى الهدوء وإلى تقبل بعضهم بدون صراعات وقتال حاشا الصراعات الفكرية من خلال المناظرات والتأليف .
3- حركة الترجمة الهائلة التي شجعها (العلماء الساسة) ولم تكن الترجمة للغات الحية مثلما يحكي التأريخ عن بعث البعوث للبحث عن الكتب من اليونانية والسريانية والفهلوية والهندية، بل أثبت العلم أنهم ترجموا بعض اللغات المنقرضة كالهيروغليفية المصرية بإيعاز من المأمون نفسه قبل شامبليون بعشرة قرون.
أما العامل الرئيس في نظري فهو: وجود ما يشبه احتقان نشأ أو أحدث هذا الانفجار وذلك الاحتقان الذي خلف هذا الانفجار العبقري فهو ( تضخم مادة كبيرة علمية خام مجموعة ( متون ونصوص)، وبسبب الفهم القديم للخليل ومن قبله أن العلم يعني في تلك الفترة القدرة على جمع أكبر مادة ، والقدرة على حفظ ذلك المجموع من خلال استظهاره من الذاكرة مباشرة ثم أخذت تلك المادة تتضخم أكثر فأكثر وظل هذا التضخم يزيد دون ظهور حركة علمية مغايرة للفهم السائد آنذاك للعلم ، وبفعل التزايد في تلك المادة العلمية وتضخمها وعدم قدرتها على إيجاد أفق تطوري لها في إطار منظومة الحفظ والجمع كنسق وحيد هو نسق العلم آنذاك بالإضافة إلى عدم قدرتها على مواجهة المشكلات المستجدة في إطار الحاجة إلى توظيف النتاج العلمي للمجتمع ظهرت حينذاك أزمة مابعد الجمع لتتمثل في التسارع المنهجي عند الخليل وجيله الذي كان الفتيل الذي فجر القنبلة المعرفية، فما حدث هو إبداعات منهجية جديدة للإفادة من الركام العلمي المحفوظ، وقد أدى ذلك الإبداع المنهجي إلى تطورات سريعة ومتلاحقة من الانفجارات في إطار الانفجار الكبير في كل المجالات ، ولكن الانفجار كما هو معلوم يظهر بقوة ثم يختفي فجأة و تظل آثاره باقية ما لم يحدث حدث بمستواه ليمثل نقلة أخرى، وحتى الآن لم يحدث حدث بمستوى ذلك الانفجار ليغير من المسار المعرفي العربي، بل تحولت آثار ذلك الانفجار إلى مادة محفوظة غير متراكمة وقف عليها السلفيون وعدوا الخروج عليها في الغالب غير جائز أو كفرا أومعصية... وربطوا منتج هذه الفترة الذهبية بالدين بصورة أو بأخرى ليحافظوا على الهوية بزعمهم. أي أن آثار ذلك الانفجار هي أكبر عائق الآن عن حدوث نقلة علمية أو انفجار آخر كبير يمكن أن يحدث ، بل لقد تحولت العوامل المساندة إلى عوامل مضادة كليا لا من الناحية السياسية التي تخلفت منذ عصر المتوكل العباسي ولا من النواحي الإيديولوجية التي تمثل عقبة كأداء في وجه أي آخر مختلف ، كما تحولت إلى صراعات مريرة مستمرة تتخذ السياسية الجاهلة منها مطية عمياء لتحقيق مآربها للبقاء في السلطة ولا من نواحي التفاعل مع الآخر عن طريق الترجمة التي تدهورت وما زالت منذ عصر المأمون حتى الآن .
إن تعطل المسيرة العلمية العربية مثلما كان بسبب بقايا الانفجار العلمي الهائل التي حولتها الإيديولوجيا السائدة إلى مقدس لا يجوز المساس به كان أيضا بسبب طبيعة الحركة العلمية لفترة الانفجار وما تلاها ، حيث دارت تلك الحركة في إطار نخبوي منعزل عن المجتمع ، وعن حاجاته ، وعن الوعي العقلي الجمعي فلم نجد مسار متكاملاً لتطور تلك العلوم في إطار وضع منظومات علمية تراكمية بل كان الوضع الذي نشأ فيما بعد هو وضع الحفاظ على الهوية بسبب من التحديات الداخلية والخارجية التي فرضتها الظروف منذ ذلك الحين وحتى دولة ما بعد الاستعمار.
هل يمكن أن يحدث ذلك الانفجار مرة أخرى ، من المفترض أن يحدث ذلك لأن تضخم البقاء على التراث والعودة إلى حفظ منجزات فترة الانفجارالأول سيجعل حدوث انفجار معرفي جديد أمرا لازما بشرط أن تتوفر العوامل المساندة مرة أخرى وبشرط أن يحدث انفراج سياسي وانفراج اجتماعي يأخذ على عاتقه أن المجتمعات لم تعد موضوعة للنهب فقط بل أصبحت مسؤولية هوية وحاضر ومستقبل وبشرط أن تتوقف الإيديولوجيا عن إعاقة التطور ويقف استغلال الإيديولوجيا لبرمجة المجتمعات على البقاء متخلفة.