اعتاد الشاعر أن يتنبأ اعتاد أن يحلم، اعتاد أن يصرخ كالمجنون، اعتاد جنونه, فاعتاد أن يهجس بصوت عالٍ، واعتاد أن ينتظر: كما فعل الشاعر السوري رياض الحسين، المولود في «درعا» سنة 1954، والراحل مبكرا في «مستشفى المواساة بدمشق» 1982، حيث مات صغيراً جداً في العمر وكبيراً جداً في الشعر.
انتظار الثورة
عاش رياض الحسين، مغازلا رائعا للثورة السورية. ثورة كانت تتمنع عنه وعن غيره من شعراء نذروا الشعر لإشعال جذوة التمرد على الفشل الحضاري والأخلاقي، وعلى الظلم والتسلط المقيت على المصائر والأوطان، وعلى الحاضر والمستقبل. لكن ماذا لو أن بوسعنا الاستماع إلى رأي هذا الشاعر الذي يعد حالة شعرية فذة، رغم عمرها القصير، حول الثورة التي اندلعت بعد ثلاثة عقود من رحيله، وتحديدا من مسقط رأسه «درعا» أقصى جنوب سورية.
ماذا عساه يقول، لو أنه حاضراً مشهد تحطيم الثوار لتمثال حافظ الأسد في قلب مدينة درعا في «جمعة العزة» 25 مارس 2011 ؟. وقد كتب قبل أربعين سنة في ديوانه «خراب الدورة الدموية»:
(أعددت لكِ فنجان القهوة
فنجان قهوة ساخنة
القهوة بردت
وما جئتِ
وضعت وردة في كأس ماء
وردة حمراء حمراء
الوردة ذبلت
وما أتيتِ
كل يوم أفتح النافذة
فأرى الأوراق تتساقط
والمطر ينهمر
والطيور تئن
ولا أراك
لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لاثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح و المطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة..)
تماثيل الشعراء
غير أنها حين جاءت هذه الثورة، كانت ومازالت وقائعها، تشير إلى خراب من نوع فادح لم يكن يخطر ببال الجميع. حتى الشعراء أنفسهم!
اليوم. تزدحم القرى والمدن المدمّرة في شمال العراق وسوريا، بعناصر «العصابات المسلحة».. إنها القيامة إذن. الجهاد. النفير... المحرضون يشمرون عن سواعدهم، والمتوحشون تسربوا من كل مكان إلى سورية. حيث لا مجال للثوار ومفرداتهم الإنسانية. لا مجال للـ»قاقوش» و»فرزات». فالثورة كلها لله. والأساطير والكرامات الجهادية تتحقق في خيالات التكفيريين.
هكذا جاءت الثورة المنتظرة. تحمل ركاماً من عناصر الإرهاب وعتادهم من كل أصقاع الأرض إلى سورية بعد عام من ثورة 2011 ، ثم إلى العراق.
ليصبح بين ليلة وضحاها، عصابات منظمة ومعلنة بأسمائها. مثل «جبهة النصرة» تلك التي لم يشفع للشاعر العباسي الشهير أبي تمام (803-845م) انتماءه لبلدة جاسم في محافظة درعا، أو قصائده التي ملأت العصر العباسي والتراث العربي كله، حكمة وجمالاً، عندما أصدرت حكم الإعدام الفوري بحق تمثال صاحب الحماسة أبي تمام. ليتم تحطيمه بهمجية فاجرة في (يوليو 2013) حيث كان شاخصا في مدينة درعا نفسها، مدينة رياض الحسين وشرارة الثورة 2011، والتي آلت إلى الخراب.
رأس المعري
من جهتها، تولت «داعش» تدمير تمثاله الآخر وسط الموصل، حيث أزالته بالجرافات من موقعه وسط الموصل، بعد تفجيره بواسطة عبوة ناسفة وذلك في منتصف (يوليو 2014)، أي بعد قرابة عام من تفجيره في درعا. كما شمل قطع الرؤوس في العراق والشام، مع بالغ الأسف، حتى التماثيل الجامدة الحجرية. حيث قطع جهاديون آخرون رأس تمثال الشاعر العربي الأعمى، أبو العلاء المعري (973 -1057م)، ليتم إسقاطه بلا رأس إلى جوار قاعدته التي كتب عليها «شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء» ، وسط هتافات التهليل والتكبير في معرة النعمان شمال سورية (فبراير 2013).
عودة العيارين
وإلى الفيلسوف والمؤرخ العربي ابن الأثير، الذي اشتهر بموقفه المناهض للتطرف والكراهية وللطائفية ورموزها العيارين الذين كانوا يبدأون حفلات التهييج الطائفي بإساءة عياري كل طائفة إلى الرموز التاريخية للطائفة الأخرى، لتبدأ دورة جديدة من الصدامات المروعة التي تبتدر نارها الأخضر قبل اليابس.(الكامل في التاريخ، ابن الأثير).
فكان من الموضوعي أن يكون من أول الأولويات لدى مقاتلي داعش بعد سيطرتهم على الموصل أن يسارعوا إلى إيذائه. فتم نبش قبره، وتدمير ضريحه بنهاية ( أبريل 2014).
فيما حلت الذكرى الخامسة عشر لرحيل الشاعر الكبير عبدالله البردوني، (1929 - 30 أغسطس 1999) بالمزامنة مع إعلان المرحلة الثالثة من حركة التصعيد الحوثي، شاغل الناس، ومالئ الدنيا في يمن الـ2014.
ومع أنه ليس ثمة أكبر من إعلان سقوط صنعاء إلا نهاية العالم في عين اليمني. إلا أنها سقطت عاصمة الروح كما يصفها «الدكتور عبدالعزيزالمقالح، في كتاب المدن».
سقطت الأسطورة صنعاء في أيدي المسلحين المؤدلجين، مجدداً. في صورة لا تتباين كثيرا عن قول البردوني، ذات أزمة مازالت تتكرر:
إنهم من بني البلاد ولـكنْ
يشبهون الغـزاة سلباً وزجّا!
عين العاصفة
وعن الأحياء. عن الشعراء/الناس, النابضة قلوبهم بالرعب. وتقلبات العيش بين اليأس والأمل. عن الشعراء في مناطق الصراعات المستشرية في الوطن العربي اليوم كما لم يحدث من قبل. من يشرعون نوافذ القلوب على العالم الأصم.
عن تلك الكلمات التي تقطر بدماء الشهداء وتضوع برائحة النهايات، والنديّة بأنفاس الخوف البريء. تطل مخاضات العالم العربي بكل آلامها وفواجعها، من شهادة أنبياء الشعر حيث هم، في قلب العاصفة وعينها.
نوبات الشعراء
ومن اليمن الذي تعطلت سعادته، كما يبدو، ومن «عاصمة الروح» صنعاء، يختصر الروائي اليمني علي المقري، مشاعره حيث يعيش في العاصمة اليمنية التي تغلي هذه الأيام وتنبئ بتحولات جديدة في المسار اليمني, بقوله: «بي شوق للحياة. هذا ما شعرت به حين صحوت ولا أدري إلى أين سأمضي». ثم يذهب المقري في نوبة أمل من نوع خاص، حين كتب على صفحته في «فيسبوك»:
«لا يبدو لي أن العالم العربي سيمضي إلى ما هو أسوأ في انحطاطه، بسبب بسيط وهو أنّه من غير الممكن أن يكون هناك ما هو أدنى من هذا الانحطاط المعاش».
وفي فلسفة الخوف، الذي هو سمة أزمنة الحرب، يضيف الروائي علي المقري، اقتباسا من روايته الأخيرة «بخور عدني». عن دار الساقي, 2014: (المتشدّدون كانوا أكثر خوفاً، فحاربوا بخوفهم مَن يخافونهم. الخائفون أكثر هم الذين يخيفون، ولا يستطيع أحد العيش بدون خوف، حتى الأحجار تخاف).
لكن نوبة يأس تعقبها بأيام، أعادت التعاسة إلى نصابها، والتي أخذنا إليها المقري بهدوء هذه الكلمات العاصفة:
(حين تكبر الجثّة وتصبح بحجم وطن حين تصبح الجثّة هي الوطن لا عليك سوى أن تتحسس رأسك، وتردد مع صلاح عبدالصبور:
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
تحسس رأسك) .
كوميديا سوداء
ولأن الأحداث تتطلب المزيد من السخرية. المزيد المزيد منها. إلى ما يصل لحدود الضحك الذي كالبكاء. تلقى سخرية الكاتب اليمني Abdul Karim Alrazehi عبدالكريم الرازحي، وومضاته البارعة في طرافتها وسخريتها السياسية، انتشارا واسعا في مواقع التواصل.
من ذلك أن يبدي الرازحي تضجره الشديد ذات يوم من الذين أسماهم بالأوغاد، فقال عبر منشور له على صفحته في «فيسبوك»: «أوغاد ضيعوا حياتنا لا فرحنا ولا غنينا ولا رقصنا ولا عشقنا..كلما قلت لواحدة أحبك تقول لك مش وقت الحب البلد في حرب!».
خيبة الربيع
بالعودة شمالا، نحو بغداد الرشيد، يبرز في ساحة التواصل الاجتماعي، والساحة الشعرية العربية بشكل عام، الشاعر العراقي عبدالعظيم فنجان، الذي تجد كلماته وقصائده حضورا وانتشارا مميزا في أوساط هذه المواقع.
يقول فنجان: «سأحبكِ دائما، حتى آخر لحظة من هذا الهذيان: نحن أولاد الخائبات نفضّل الموت حبا على أن نُقتل مجانا بالمفخخات!».
يعلق الشاعر فنجان على صورته المرفقة بهذا التقرير، وهو يقف أمام نصب المتنبي في بغداد، بقوله:
«أدخنُ سجائري عند أقدام تمثال المتنبي، فيخرجُ الدخان من منخريه ، ومن جيوبه تطيرُ أحلام ، قصائد وفراشات كنا قد حلمنا أن نكتبها ، فينكشط الطلاء ، وينكشفُ الهيكلُ العظمي لعالمنا الهش..».
تساقط الغيوم
وفي صورة سينمائية، لا تخلو من الرعب البديع!. يصف الشاعر عبدالعظيم فنجان بعض كوابيسه: «رأيتُ إلى الجنود ، جميعَ جنود الغزاة، يغتصبونَ صبية أحلامي على شاطئ دجلة، فاكتفيتُ بأنْ رسمتُ على السماء قلبا تخترقه نبلة، ثم جلستُ على قارعةِ الطرق أجمعُ الدم، الذي كان يتساقطُ من الغيوم في صحن راحتي» ..
ويشرح فنجان، على طريقته الشعرية، العفوية، الصارخة، ما يحدث في الأفق العراقي من فوضى عارمة:
«داعش تهدد الأكراد من سكنة الموصل. الطالباني في السليمانية. تركمان تلعفر في ذمة التاريخ. شيعي يحاول إقناعي أن احتلال الموصل والحرب الأهلية علامة من علامات ظهور المهدي. المسيحيون يقرعون أجراس المتاهة. البرلمان يناقش موازنة عام 2014. الجو حار جدا. الماء مقطوع منذ 54 يوما. ملكة جمال اندونيسيا تطلبني للزواج، هاتفي مقفول، ومجموعتي الشعرية محجوزة عند الحدود».
صراع القصيدة
اليأس والأمل، النور والظلام، صراعات تتجلى كثيرا في كلمات الأدباء والشعراء، حيث يعيشون في مناطق الصراعات الدامية هذه الأيام، منذ سنين طال أمدها.
وفي هذا السياق، يكتب الشاعر العراقي الشاب علي وجيه، ما يرسم لوحة أليمة ومعبرة جدا لواقع عراقي محزن، يمتد لعشرات السنين، إذ كتب على صفحته في «فيسبوك» كلمات تم تناقلها على نحو واسع في مواقع التواصل، خصوصا بين أبناء وطنه الذين وجدوا فيها بوح صدورهم جميعا، يقول وجيه:
«ما قتلنا إلا الأمل بتحسن البلاد، ما ضيع عمر جدي إلا أمله في غد أفضل، وما ضيع عمر والدي إلا إيمانه بتحسن الأوضاع، ولو بعد حين. وأنا على إثرهما أصحو كل يوم وأنتظر بلادا تستيقظ من دمها، وسخامها، وبصاق مذا هبها، لكنني يوميا أفجعُ وأبقى آملا في الغد، الغد الذي لا يأتيني إلا محملا بالجثث واليتامى..
لو أننا يائسون تماماً، لغادرنا هذه المقبرة الجماعية إلى غير رجعة.. لكنه الأمل، الأمل العفن، الذي ليس لدينا ما يبرره غير النهار الجديد».
ارجموني بوردة
وإلى الشاعرة السورية عبير نصر، عبر حضورها في مواقع التواصل شاهدة ونبيّة، فكتبت معلقة على الحادثة الشهيرة والمصورة بالفيديو لتنفيذ داعش حكم القتل رجما بالحجارة لامرأة تتهم بالزنى، ما يشير إلى موقف شعري واضح، وبالغ الأسى، من هذه الحالة المفزعة:
«ومن لم يقتلع قلباً من صدر كان يمتلئ بالأشعار والحبيبات
ومن لم يقطع رأساً كان سيتكئ على صدر حبيبة وينام
ومن لم يبقر بطناً ويدعس جنيناً كان سيتحول إلى عاشقٍةٍ
ومن لم يرجم جسداً جريمته أنه سيقتل الحرب بقُبلة
«........»
فليرجمني بوردة».
الحب والحرب
كاتيا راسم، التي تسمي حسابها في تويتر «العالم السيئ» @badworld_1 ، تسجل وجودا عميقا للمأساة السورية عبر قصائدها التي تأخذ شكل التغريدات على موقع «تويتر». وتحظى بمتابعة كبيرة من عشاق الشعر والثورة وسورية.
تقول كاتيا مخاطبة حبيبها:
«وكأن النوارس التقطت اسمك من صوتي لتنادي به عليك إلى الأبد..ألم أقل لك؟ هذا الذي يفصل مدينتي عن مدينتك ليس بحراً..إنه يا حبيبي دمعة كبيرة!»
وعن وحشة الفقد والموت والحرب، تجتمع هذه الثلاثية السوداء في كلمات كاتيا، بكل ما تحمله من مرارات التعاسة والحزن، حيث تقول:
«وحيدة في المقهى
يستعير الآخرون لأصدقائهم
المقاعد الشاغرة من على طاولتي
كيف أخبرهم ؟..
كيف ؟
أن هذه المقاعد محجوزة
لرفاقٍ لن يعودوا» .
وعن الحب، فليس هناك أجمل ولا أكثر جسارة وجرأة من حب كاتيا راسم، إذ تقول:
«أحبك بتلك الجرأة التي ينمو فيها العشب بين الجثث»..
المقاومة شعرياً
ونحو كردستان، الواقعة في قلب الصراعات الدامية بالعراق وسورية، لا فرق بين القصيدة والبندقية. ولا فرق بين القصيدة والشمس. فالشعر أساسي في حياة أبناء الجبال. حيث المقاومة الصامدة من أجل البقاء، ثقافة تسري في البشر والحجر. وهوية إنسان ثابت منذ عقود طوال من محاولات المحو والفتك وجرائم الإبادة والقمع.
«أنا إبراهيم حسو
متُّ في سوريا عام 2009».
هكذا، يعرف نفسه الشاعر السوري الكردي إبراهيم حسو، ذات يوم على فيسبوك. إنه مناضل يقاوم بالقصيدة في كل بلاد كردستان خلال أزمتها الراهنة في التصدي لهجمات الإرهاب الوحشية على المناطق الكردية.
يصف الشاعر حسو مشهد «عين العرب/ كوباني» كما هي في عين الكردي السوري: «كوباني شمس صغيرة متدلاة على ظهر امرأة». وفيما كانت داعش تعلن حصارها لعين العرب/ كوباني، بأقصى شمال سورية، آثر الشاعر حسو، أن يشرح لنا المسألة المعقدة على طريقته الكردية:
«بلاد الكرد أوطاني
من الشام لكوباني».