في الأمثال العالمية، أو ميثولوجيا الشعوب القديمة الموثقة بمختلف اللغات، يُقال عن المديح الذي تفوح منه روائح الكذب والنفاق ومغالطة الحقائق ومعاكستها تماماً لغايات يريدها المادح بدهاء من الممدوح الذي يتحلّى بالغباء: «أشبه بمديح الثعالب للغربان!». وأصل المثل مأخوذ من إحدى الحكايات الرائعة للحكيم الإغريقي أيسوب (620 - 564 ق.م). تقول الحكاية: «اختطف غرابٌ قطعة جُبن من سلة كانت على رأس فلاح، وطار بها إلى أعلى شجرة، ووقف ليأكلها، وكان الثعلب يراقبه، ويشتهي قطعة الجبن، فجلس تحت الشجرة، وقال للغراب: طاب يومك يا صديقي الجميل، تبدو اليوم في أحسن حالاتك! فجناحاك يلمعان ويبرقان بأفخم لون في الدنيا، ومخالبك كأنها أظفار قدّت من لؤلؤ، غير أنَّ أجمل ما يعجبني فيك هو صوتك العذب الذي يطربني كلما استمعتُ إليه(!) فانتشى الغرابُ بما سمع، وكان يمسك قطعة الجبن بمنقاره، فهزّ ريش ذنبه مزهواً، وفرد جناحيه تعبيراً عن سعادته. فزاد الثعلبُ من مديحه ووصفه لصوت الغراب بأنه أجمل صوت في الدنيا كلها، حتى فتح الغرابُ فمه ليقول شكراً.. فسقطت قطعة الجبن التي التقطها الثعلبُ وهو يلتفت للغراب قائلاً: أغلق فمك أيها الغبيّ، فأجمل ما لديك هي قطعة الجبن التي أسقطتها من فمك، فأغلقه ولا تسمعني صوتك الكريه المزعج أبداً»!
المثل يكاد يكون منسياً، بينما الحكاية تتكرر في عالمنا اليوم بأوجه متعددة، وإذا ما تنبّهنا لذلك فإننا قد نتخذ الحيطة والحذر من (مديح الثعالب) من دون أن ننتبه إلى الجانب الأهم (أجمل ما لدينا).. فإن كان أجمل ما لديك مجرد شيء مسروق من غيرك فأولى به السقوط منك إلى ثعلب يجيد مديح أسوأ ما فيك(!) وإن كان أجمل ما لديك هو إبداعٌ من صنع يديك فإن الثعالب وغيرها من المخلوقات الوصولية الماكرة ستتجنب مديحه؛ لأن الحسد سيأكلها أولاً، ثم لأنها تعلم أنك تستحقه عن جدارة.. فلن تنتشي بمديح من أحد، ولن تضطر إلى أن تفتح فمك لتقول لأحد (شكراً)، فيسقط منكَ أجملُ ما كان لديك!
لماذا تذكّرتُ هذا المثل (مديح الثعالب) الآن؟ ولماذا أضفتُ إليه (للغربان)؟ ولماذا تأملته مع الحكاية الأصلية من جانب ربما لم يخطر ببال المبدع أيسوب نفسه..؟!
الواقع أن في زماننا تبدو أجمل الأشياء لدى معظم الذين يطربهم المديح مسروقة من غيرهم، أو لا وجود لها أساساً إلاّ في عبارات مادحيهم الموجهة دائماً صوب النواقص والعقد المزمنة واصفين إياها بما يجعل أصحابها ينتشون غبطة فاتحين أفواههم على مصاريعها شاكرين. ولك أن تتخيل مزيداً من الأمثال والحكايات المتطابقة مع كثير ممن يحيطون بنا..
* * *
من (حوار الليل ونجمة الصبح):
دعيني أجرّب هذا الكلامَ قليلاً..
- كلامٌ هو الشعرُ؟!
- أقسمُ باللهِ: لا..
فالشعرُ ضربٌ من المعجزاتْ
وبالشعر قاربتُ معنى الحياةْ
- بماذا انتهيتْ؟
- انتهيتُ بجرحيَ
ثم نزفتُ، تعبتُ، انثنيتُ، انحنيتْ
ثم ارتميتْ
ثم ارتضيتُ ارتمائيَ حتى،
هو الشِعرُ أوقفني.. فانتشيتْ!